عندما تعود بنا الذاكرة إلى أيام الدراسة، نستذكر «التسامح الإنساني» في أبهى صوره وتجلياته، وذلك في قصة الشابين الصديقين اللذين كانا يسيران في الصحراء، وبعد جدل بيزنطي ضرب أحدهما الآخر على وجهه! لدرجة أنه لم يجد الصديق المضروب ما يتفوَّه به، إلا أنه بدأ ينقش على الرمال: اليوم أعزّ أصدقائي ضربني على وجهي.
بعد طول مشقة قررا الاستحمام، فتعلَّقت قدم المضروب بالرمال المتحركة وبدأ يغرق شيئاً فشيئاً، ولكن صديقه أمسكه بيده وأنقذه من الموت، فقام ونحت على صخرة: اليوم أعزُّ أصدقائي أنقذ حياتي.
سأله صديقه متعجباً: لِمَ كتبت على الرمال في المرة الأولى عندما ضربتك، والآن وعندما أنقذتُ حياتك قمت ونحتَّ على الصخرة؟!
أجاب الصديق بعفوية: نكتب الإساءة على الرمال عسى ريح التسامح أن تمحوها، وننحت المعروف على الصخر حيث لا يمكن لأشدّ ريح أن تمحوه!
هذا المعنى تمثَّل أمامي وأنا أشارك في أمسية خاصة بمناسبة تدشين الإصدار الأول «آمال» للمنشد الشاب يوسف العشيري.
الحضور كان شبابياً لافتاً من الجنسين، ربما لأنه تولَّعَتْ لديهم الذائقة الإنشادية بعد النجاح الذي حققه مؤخراً المنشد المعروف سامي يوسف.
أتفق مع من يرى أننا لسنا بحاجة في إدارة مشاكلنا وصراعاتنا ويومياتنا إلى المزيد من السياسيين، بقدر ما نحتاج إلى أخلاقيين بلا غاية ولا مصالح أو مآرب، وهذا ما قرأته في وجوه الشباب الذين جاءوا ليستمعوا إلى نداء العقل والإنسانية على وقع أنغام الموسيقى.
بلاشك، فإن توظيف وسائل الإعلام المتعددة وشبكات التواصل الاجتماعي لهو أمر في غاية الأهمية لتنمية الوعي لدى جيل الشباب بثقافة التسامح والقبول بالآخر، وتثقيفهم وتعليمهم وتبصيرهم بالحقوق والحريات التي يتقاسمونها فيما بينهم.
ولأن المجتمع البحريني متعدد ومتنوع الأعراق والطوائف والمذاهب، فإن الحاجة ماسَّة لنشر القيم وتعزيزها، مثل: التسامح والقبول بالآخر والحوار وحقوق الإنسان وغير ذلك، وهو ما يفتح عقول الشباب قبل أعينهم على مكامن الخلل في الممارسات المجتمعية على أرض الواقع.
إن التسامح يعني «الاحترام والقبول بالآخر» وكان فولتير يعتقد بضرورة تحمّل الإنسان للإنسان الآخر، على أساس أن البشر كلهم ضعفاء وأنهم معرضون للخطأ، وعلينا أن نأخذ بعضنا بعضاً بالتسامح.
ربما لا يتفاعل البعض مع فولتير في نظرته للتسامح، ولكن يبقى هو الخيار الأفضل للتعايش الإنساني، كما عبَّر المهاتما غاندي في رسالةٍ له من السجن: لا أحب التسامح، ولكني لا أجد أفضل منه للتعبير عما أقصده.
حتى أن نيلسون مانديلا الزعيم الجنوب افريقي، الذي مكث في السجن 27 عاماً وقاد مقاومة سلمية ضد نظام التمييز العنصري (الأبارتايد) ذكر في رسالته للثوار العرب بمناسبة الربيع العربي نصحهم فيها قائلاً: «أذكر جيداً أني عندما خرجت من السجن كان أكبر تحد واجهني هو أن قطاعاً واسعاً من السود كانوا يريدون أن يحاكموا كل من كانت له صلة بالنظام السابق، لكنني وقفت دون ذلك وبرهنت الأيام أن هذا كان الخيار الأمثل، ولولاه لانجرفت جنوب افريقيا إما إلى الحرب الأهلية واما إلى الدكتاتورية من جديد؛ لذلك شكلت (لجنة الحقيقة والمصالحة) التي جلس فيها المعتدي والمعتدى عليه وتصارحا وسامح كل منهما الآخر، إنها سياسة مُرَّة؛ لكنها ناجعة»!
في كل الأحوال، فإن التسامح لا يعني إطلاقاً التنازل أو التساهل أو المساواة، أو أن ممارسته تتعارض مع احترام حقوق الإنسان، كما ذكر أدونيس أن «التسامح هو نفسه نقيض كذلك للديمقراطية، تتسامح هذه الجماعة مع تلك المختلفة عنها، مضمرة أنها الأكثر صحة، ويكون تسامحها نوعاً من المنة أو التفضل والتكرم. يكون إذاً، شكلاً من أشكال احتكار الحقيقة، ومن التعالي والتفوّق والعنصرية، هو في كل حال ضدّ المساواة.والإنسان لا يريد التسامح، وإنما يريد المساواة، دون مساواة، لا حقوق، لا اعتراف بالآخر، لا ديمقراطية. هكذا تبدو الديمقراطية في المجتمع العربي مجرد لفظة نتشدّق بها، مجرّد لغو».
كلام أدونيس يتناقض مع نص إعلان اليونسكو الذي يؤكد أنه «من دون التسامح لا يمكن أن يكون هناك سلام، ومن دون سلام لا يمكن أن تكون هناك تنمية وديمقراطية».
«تسامُح» واحدة من قصائد (آمال) التي كتبها باللهجة الدارجة الشاعر البحريني نادر التتان، إذ ينطلق من مسلَّمة لا يختلف عليها اثنان وهي إمكانية صدور الخطأ من البشر، حيث يقول: إذا واحدْ مِنّا يِخْطِيْ... وللهِ الكمالْ/ خَطَا لا يمكن نّحفرهْ... على غيرِ الرَّمالْ/ وإذا جَتْ رِيحِ التَّسامُحْ تِمحيهْ... تِمحيهْ/ وإذا سَجَّلت إِبْجَمِيلَكْ... علىَّ أجملَ حُضُورْ/ أنا أنقِشْ هالجمايل... على وجهِ الصُّخورْ/ علشانْ الذكرى تبقى... وتِحييه... تِحييه.
ثم يتطرق إلى العيش المشترك بوصفه قدراً لا مفر منه: أنا وإنتْ عِشناْ في دِيْرَةْ... أبدْ لا تاخِذَكْ حِيرةْ/ وحقّ الصُّحبةْ والجِيرةْ... تُوفِيهْ... أو ما تُوفِيهْ/ مُهِمْ إبهالدِّنْيا نِحيِي... التَّسامُح والإخاء/ أنا وِيَّاك أُوفي وأرجو... تبادِلني الوفاء/ تَرى مَهما نِبعد إنْظِلْ إخوانْ... إخوانْ.
وبما أن احترام الرأي الآخر هو مفتاح التسامح، فإنه يقول: ولا أَلزِمَكَ إنتَ تِمشِي... في كِلْ خَطوةْ وراي/ إذا لكْ راي أنا هَمْ لي... في هذي الدِّنيا راي/ أنا مِثْلَكْ يا عزيزي... إنسان... إنسان.
الإحسان قاعدة قرآنية في التسامح، ثم يضيف الشاعر: إذا قلبك حبّني من طِيبهْ... وحلاةِ العشرةْ بالطِّيْبَهْ/ سلامْ وشُوقْ وترحيبةْ... إحسان... جزاء إحسان.
يختم التتان قصيدته: (رسول الله... رسول الله... غفر وسامح... رسول الله)، وهي أشبه ما تكون بدعوة للتأمل في خطاب فتح مكة عندما كان المسلمون على مشارفها، إذ رفع أحدهم صوته متوعِّداً بالتشفي والانتقام «اليوم يوم الملحمة... اليوم تُسبى الحرمة»؛ ولأن هذا المبدأ ليس من سماحة النبي الأكرم (ص) وهو المبعوث رحمة للعالمين، فصدر الأمر بإعطاء الراية للإمام علي (ع) الذي رفع صوته معلناً بدء مرحلة جديدة «اليوم يوم المرحمة... اليوم تُصان الحرمة».
هذا التسامح هو الذي انتهجه (ص)، والذي استشهد به أيضاً نيلسون مانديلا مختتماً رسالته: «أتمنى أن تستحضروا مقولة نبيكم: اذهبوا فأنتم الطلقاء».
إقرأ أيضا لـ "فاضل حبيب"العدد 3515 - السبت 21 أبريل 2012م الموافق 30 جمادى الأولى 1433هـ
جَميل فِعلاً !
كُنت أستمتِع بتأمّل كلمآت القصِيدة لأنهآ جدّ جمِيلة ..
أمآ بعد معرفة المعنى الحقِيقِي لكلمآت القصِيدة أصبحتُ مُعجبة بِهآ أكثر !
الحمدلله أن وفقنآ تِلك الليلة للحضُور .. كآنت أمسِية جدّ رآئعة ..
أحسنتَ أخِي فآضل ..
أحسنت
مع أن التسامح مع القتلة صعب خصوصا من عوائل الشهداء وقس على ذلك من كان محتار في كيفية تلبية متطلبات أطفاله ومن جرح وخصوصا من فقج عينه أو هجر أو سجن بلا ذنب لكن في النهاية لا بد من التسامح لأن النفس الكبيرة هي من تستطيع السمو فوق الآلام.
أكبر مخاوفي من أن يظن الجهلة أن أنشودة التتان بصوت العشيري هي إعتذار من المعتدين على الإنسانية في البلد وطلب السماح منهم.
إنما هي عمل يراد به إرجاعهم لجادة الصواب والكف عن الغي فما فعلوه محرم في كل الشرائع والأعراف والمواثيق وغير أخلاقي.