في العام 1872 ظهر في انجلترا كتاب فريد. الكتاب من تأليف عالِم الحيوان والتاريخ الطبيعي الإنجليزي، تشارلز داروين، الذي أثارت نظرياته حول النشوء والتطور جدلاً واسعًا في الأوساط العلمية والدينية، عندما أرجع أصل الإنسان إلى البهيمية. وقد بقي ذلك الكتاب، في نسخته الأصلية، غير متكامل لا في نشره ولا في عرضه، وأصبحت تنشَر منه أجزاء، وتحبَس أخرى، على رغم أن العديد من فصوله قد ترجِمَت إلى الفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية، وذلك لأهميتها. وبعد سنين عديدة، ولأول مرة، يتم نشر كامل الكتاب بحوافه، إلى اللغة العربية، بعد أن تبنت المشروع، المنظمة العربية للترجمة، التي تقوم منذ زمن، وبشكل رائد وطليعي، بإقامة تواصل فكري بين الشرق والغرب، بتصديها لترجمة تراث عصر الأنوار.
أهمية الكتاب، المسمَّى «التعبير عن العواطف عند الإنسان والحيوانات» تنبع من كونه يتطرق إلى أكثر الأشياء السلوكية غموضًا في الخلق. وقد تم تبويبه في أربعة عشر فصلاً موزعة على 445 صفحة، تحدّثت كلها عن مشكلة التعبيرات الإنسانية والحيوانية، وانحطاط الهِمَّة والقلق والحزن والاكتئاب واليأس، والحب والإخلاص وتعكر المزاج والدهشة والخوف والكبرياء والتحقير، وخلافها من الصفات والسلوكيات والتعبيرات العضلية لتقاسيم الوجه. حيث قام تشارلز داروين، بسبرها علميًّا، بناءً على تجارب حيَّة، وقَفَ عليها بنفسه، وأسرَّ له بها عدد من كبار العلماء، الذين عاصرهم في أوروبا والقارة الأميركية شمالاً وجنوبًا.
أهم تلك الفصول، والتي اخترتها لأسباب تتعلق بارتباطها بواقعنا المعاش، هو الفصل العاشر، الذي يتحدث فيه داروين عن الكره والنقمة، وتأثيرهما في النظام وموقعهما لدى الجنون والسخط. يذكر المؤلف، أن الأذى الإنساني تقابله حالة من المقت، تلي حالة الكره. والكره بطبيعته على درجات. فعندما يكون السلوك العدواني معتدلاً، تقابله حركة جسمانية، بل يُكتفَى بتثاقل في الحركة أو مزاج عَكر. وفي حالة كون الإنسان المعتدي عديم الأهمية، تكون ردة الفعل احتقارًا له لا أكثر. وفي حالة كونه عظيم البنية، وذا بأس شديد، فإن ذلك الكره يتحوَّل إلى خوف ورعب، من دون أن تلغَى مسألة الكرهانية لدى الفرد والجماعة، مثلما كان يجري بالنسبة إلى العبد تجاه السيد الظالم، إبان الإقطاع، أو كما يجري الآن بالنسبة إلى الأنظمة القمعية.
المشاعر مرتبطةٌ ارتباطًا وثيقًا بالتعبيرات، وتصبح الأخيرة ممحوَّة بسلبية الجسم. كما أن الدورة الدموية والقلب يتأثران، فيحمر الوجه وتنتفخ عروق الرقبة، ويغلق الفم وينتصب الجسد، وتصر الأسنان أو تتطاحن، وينتفخ الصدر ويرتعش المنخران. وقد لاحظ داروين أن الهنود الحمر، في جنوب أميركا، والمعروفين ببشرتهم النحاسية، تتحوّل جلودهم إلى حمراء عندما يُغاظون. بل إن داروين، قام بالتجريب حتى على ولده الصغير، الذي لم يتجاوز عمره أربعة أشهر، فوجد أن اقترابه من عاطفة معينة، تجعل الدم يندفع إلى فروة رأسه.
يذكر داروين في كتابه، أنه وقف شخصيًّا على سلوك إنساني حيواني مشترك عند الانفعال، وهو يحصل عند الأطفال تحديداً. فقد وجَدَ أن أطفال الهندوس، يقومون عند غضبهم بالتدحرج على الأرض، وهم مستلقون على ظهورهم أو بطونهم ممزوجًا بالصراخ. وقد وجد أن مثل هذا السلوك، تمارسه القرود الصغار أيضًا، حيث إن دماغ كل إنسان، يمر بمراحل تطور، هي ذاتها المراحل التي تمر بها الحيوانات الفقارية. بل إن المؤلف وقف على سلوك جسماني تعبيري، يحصل ما بين الغيظ والمرض. فالرأس عادةً ما يكون متخمًا بالدم فيتقلص البؤبؤ، وهو أمر يحصل لمرضى البطَّاح (هذيان الحمى) المصاحب لالتهاب الأغشية الدماغية.
ليس ذلك فحسب، بل إنه استند أيضًا إلى رأي كريشتون، الذي أكَّد له أن سلوك تراجع الشفتين، والكشف عن الأسنان، خلال موجة الغضب، قد وُجِدَت لدى المعتوهين والمرضى النفسيين، بل وارتبطت حتى بحالات الكفر الديني، وضرب على ذلك أمثلةً عديدة.
وقد عدَّد داروين أشكالاً من ردود الأفعال عندما ينقم البشر، فذكر أن الأستراليين على سبيل المثال، يُعبّرون في حالة النقمة بإطالة الشفتين، وفتح العينين، بينما تقوم نساؤهم بالتراقص ونثر التراب في الهواء. أما الماليزيون في شبه جزيرة مالاقا، والأحباش وسكان جنوب إفريقيا الأصليون وهنود داكوتا في أميركا الشمالية، فإنهم يبقون أيديهم منتصبة ويمشون شامخين بخطى واسعة، في حين يقوم الفيجيون بضرب الأرض في حالة المشي غير المنتظم، ثم يصرخون ويبكون وتشحب ألوانهم.
بالتأكيد، لا أريد الاسترسال أكثر، في مسألة استعراض نظريات وتجارب الكاتب، التي تحمل من العلمية والفكاهة الكثير، إلاَّ أن ما يهمني من كل ما ذكرته، هو أن مسألة الكره والنقمة لدى البشر، والتي تعرَّض لها الكتاب بشكل تفصيلي، تتفق مع حاليْن: الأول السلوك الحيواني، والثاني السلوك الجنوني لدى المعتوهين. وهو في حقيقته أمرٌ حريٌّ بنا أن نتمعن فيه جيدًا. فالبشر، هم أسوياء، ما داموا على السلوك الانفعالي المعتدل، والمتسالَم على عقلائيته. أما حين ينفلتون من ذلك العقال؛ فإنهم يرجعون إلى أصول بدائية، حيوانية جنونية، فينزعون عن أنفسهم صفة الإنسانية، التي اختصت بها البشرية في عقلانيتها.
إن الجماعات التي تبني سلوكها التعبيري على الكره؛ فإنها تتمثل بالجنون والحيوانية، حتى ولو تسربلت بأبهى الثياب، وتنمَّقت بحسن الكلام. بل إن ذلك المنسوب من الكره، إن كان قادرًا على تقريب التشابك المباشر بين المتكارهين، فسيفعلها، وإن لم يستطع، بسبب موازين القوى؛ فإنه سيحيلها إلى باطن الشعور، لتبقى متأهبةً دائمًا، نحو الفوران، متى ما سَنحَت لها الفرصة في ذلك. وربما يصبح مثل هذا الكره، أخطر، كونه يتعتق، وتبنى أدواته، طبقًا لما يجري حوله من أحداث ومواقف ومآسٍ. (للحديث صلة).
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3514 - الجمعة 20 أبريل 2012م الموافق 28 جمادى الأولى 1433هـ
قاسم
زيادة الكراهية تُوصل إلى الحقد, و الحقد ألأمّ العيوب.