مبادئ الدول تقوم على أربع. أحدها هو وجود استقرار سياسي مُنبثق من نظام قانوني. فمسألة القانون، ليست من النوافل، بل هي من أوكَد الأشياء وأهمها، في الدول والمجتمعات بالسواء.
القانون يقوم بوظائف عديدة، ومحورية أيضًا. فهو يؤطر من عَمل الدولة، ويُكسبها الشرعية، ويضبط جُمُوح البشر فيها، ويَحمي عملهم، ويزيد من هَيبة الدولة، وفي الوقت نفسه يُضعف الولاءات الفرعية لدى الشعوب، ويدفعها نحو الولاء الموحَّد والمتجانس.
ما ذكرناه أمرٌ ثابت. لكن، لا يمكن، وبأيّ حال من الأحوال، التعامل مع مسألة القانون، إلاَّ بعمل سياسي مواز. بمعنى، أنه لا يمكن لأيّ نظام سياسي، أن يدعي تطبيق القانون، في الوقت الذي تكون فيه بنية الدولة السياسية عرجاء، وفاقدة لأبسط قواعد العمل المؤسسي، كوجود حياة نيابية سليمة، وتداول سلمي للسلطة، وقضاء نزيه، ومكافحة متأصلة للفساد، والمساواة بين البشر، طبقًا لموازين المواطنة، وليس على أساس عرقي أو مذهبي.
هذا أمرٌ ثابت بقوة. فأوروبا، وعندما شَرَعَت في معركة حاسمة ضد اللاقانون، واستفحال الجريمة، ومكافحة الآراء المتطرفة، والحركات الانفصالية، كانت قد بدأت في الانتصار إلى مشروع سياسي ناهض، يقوم على تحويل البُلدان الأوروبية، من مجموعة ضِيَع وأراضٍ ممتدة، يمتلكها الإقطاعيون والأرستقراطيون وبيوت الملك، ويتحكمون فيها وفي عبادها، ويسومونهم سوء العذاب، إلى بلدانٍ متأسسةٍ على أنظمة سياسية ديمقراطية حقيقية.
دُمِّر سجن الباستيل في فرنسا وأصبح رمزًا للحرية والثورة. وتحوَّلت القلاع السَّاجِنة، في إسبانيا وهولندا وألمانيا وبريطانيا، من محلات للقمع السياسي والتنكيل بالسياسيين والعلماء والفلاسفة، إلى متاحف يتم التندر فيها بتلك الحقب المظلمة. لقد هبَّت القارة الأوروبية عن بكرة أبيها، لصياغة مشروع دولة حقيقي، جعل من الرؤى والنظريات السياسية، لأن تجول في المعاهد والجامعات، وقاعات العصف العلمي، لبلورة أقصى ما يُمكن أن ينتجه العقل البشري، وقد فعلت ذلك، وأنجزته بطريقة فاعلة، رغم إمكانات الزمن المر.
فظهر جوزيبه ماتزيني في إيطاليا، وجون ستيوارت ميل في انجلترا، وروبسبيير في فرنسا (خلال مرحلة الرعب الأحمر)، بل ترِكَ المجال حتى للذين وقفوا مواقف سلبية من التغيير السياسي باتجاه الديمقراطية لصالح الرجعية، كـ لويس دو بونال، وفرانسوا دو شاتوبريان، وجوزيف دو مستر، ودخلوا في النقاش العام وسط السجال الفلسفي في المجتمع الأوروبي، حتى استقرت الأمور لصالح سلطة القانون الملزِمَة للجميع، وحق المواطنين في المشاركة في تدبير الشئون العامة كحق سياسي، كما كان يصفها الباحث الفرنسي غيوم سيبرتان.
لذلك، فنحن نرى، أن الانتكاسة التي أصابت مشروع الدولة الليبرالية في أوروبا، بعد الشرخ الذي ضرب المجتمع الأوروبي بدخول الفاشية الإيطالية والنازية في ألمانيا، إلى بعض جنباته، قد دفعت الدول الأوروبية ومجتمعاتها لأن تتضامن داخل إجماع منقطع النظير، وتتوحد ضد هذا المشروع الطارئ والدخيل على العقل السياسي الأوروبي الذي تسالم على نمط محدد من النظريات السياسية المتقدمة، التي تكوَّنت على إفاضاتها تجربة حكم سياسي، منذ نهايات القرن الثامن عشر، وأثبتت أنها مرشحة، لأن تحكم العالَم من حيث نموذجيتها.
بل إن الأوروبيين، لم يجدوا غضاضة في أن يتحالفوا حتى مع الجيش الأحمر، الذراع العسكرية للشيوعية الستالينية، لدحر مثل هذه الأفكار السياسية والعقائدية، التي ضربت أهم بلدان أوروبا الغربية، منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد، في منتصف ثلاثينيات القرن الماضي. وقد كانت تلك، تجربة مهمَّة من تاريخ الإنسانية، في التعامل مع القيم الشاذة، وأيضًا، في مسألة النظر إلى القانون، ولكن من زاوية سياسية، تكون أسبق منه أو متساوقة معه في التطبيق، ثم تلازمهما بشكل صلب داخل المشروع الواحد.
أيضًا، تكررت مثل هذه الأحداث، مع الجماعات السرية المتطرفة التي ظهرت في أوروبا، وبالتحديد الألوية الحمراء في إيطاليا، بين عامي 1970 – 1988 والتي تورطت في أكثر من سبعين عملية اغتيال، أبرزها حادثة اغتيال رئيس الوزراء الإيطالي ألدو مورو، وكذلك جماعة بادرماينهوف الألمانية، حيث أصبحت النظرة السياسية والسوسيولوجية الأوروبية، لمثل هذه الأعمال، بمثابة الخروج عن الإجماع السياسي والفلسفي للقارة، وهو ما جعل من مسألة تطبيق القانون، مسألة أكثر من مُلِحَّة على مثل هذه الجماعات، وهذه الأفكار المتشددة.
ما يُمكن أن نخلص إليه، هو أن مسألة سيادة القانون، أمرٌ ضروري لاستقرار الدول، لكنه يُصبح بلا معنى، عندما يُنادَى بمثل ذلك الشعار، في الدول ذات الحكم غير الرشيد، والناقصة من حيث التشريع الصحيح، وفي طريقة الحكم السياسي الناظم للدولة. إذ كيف لدولةٍ ما موغِلة في الفساد، وتعتقل مواطنيها لدواعٍ سياسية، ويتم اتهامهم بتهم لا تتناسب والإمكانات التي هم عليها، كونهم مدنيين بشكل صرف، ثم تقوم بانتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان، ثم يأتي من يطالب من داخل الدولة، بضرورة تطبيق القانون، عندما تظهر أصواتٌ تطالب بالإصلاح، وتجويد عمل الدولة!
القانون والسياسة، أمران متلازمان. ولا يمكن الاحتجاج بأحدهما على الآخر بطريقة مُبسَّطة. فإذا ما وجِدَ الإطار السياسي السليم للدولة، القائم على الأصول الطبيعية، المرعية في العالَم، بشكل جوهري لا شكلي، صحَّ تطبيق القانون بشكل صارم، وإلاَّ، لا مجال سوى لسيل من الأزمات غير المنتهية، التي تدخِل البلدان، في نفق مظلم من الإشكالات، والاختناقات السياسية والاجتماعية، مع بقاء التصنيف التلقائي، لأي مخالفات ترتكَب.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3512 - الأربعاء 18 أبريل 2012م الموافق 26 جمادى الأولى 1433هـ
مقال رائع بس
أستاذ محمد لا يخفا عليك اننا دول قبائلية الدين و كتاب الله ( آلقران ) عندنا هم الاساس في التعامل وليس كل ما يصح للغير ان يصح لنا في قوانين في الدول الغربية وانت تعلم بهذة القوانين لا يمكن ان نتحدث بها فكيف لنا ان نطبقها
برافو أستاذ محمد
والله العظيم مقال لايوصف .. إلى الأمام يامحمد
انت لم تضع يدك على الجرح بل نتأت الجرح الذي تعاني منه بلدنا وجميع الدول العربية
نعم لبناء دولة المؤسسات والقانون
وأعني الدولة التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات ، لا تمييز بينهم بسبب العرق أو المذهب أو الدين أو الجنس. نعم للدولة التي يخضع فيها الجميع لسيادة القانون ولا احد فوق القانون.
شكرا اخ محمد لكن المقال قوي !
في العالم العربي يعد هذا المقال أطروحة قوية عاد وين العقول الراجحة والرشيدة والحكيمة التى تستلهم منه شيئا يطبق عندنا في عالم العربي اللهم يمكن يطبق منه جزء في الفروسية وريادة النوادي الشعري كشاعر المليون ، مليون مرة واحدة الشعب ما يملك قطمير ولا عنده مكان يمرح فيه ، لكن حكامنا عندهم مكان تمرح فيه الخيل !
الاصلاح السياسي مثل المرآة يعكس الصورة الحقيقية لتطبيق القانون
أنا اثني على تعليقك فكيف لشخص ان ينادي بتطبيق القانون على فئة دون آخره وشخص دون آخر ... حيث يطبق القانون على أشخاص لاحول لهم ولا قوة والأشخاص الذين عاشو ينخرون فسادا في مفاصل الدولة لا يمكن انتقادهم ناهيك عن مسألتهم قانونيا فهم من الطبقة المخملية ومن المتملقين لدى البلاط
بعد كل هذا التفصيل ( يارقم 3 )
بعد كل هذا التفصيل يقول لك زائر 3 تريد دولة بلا قانون ، يبدوا أنك لم تقرأ المقال كاملا وان قرأته فهمته غلط ، عجل وويش امودي البلد في داهية غير الفهم الغلط ن وسلامتكم .
مع القانون يكون الولاء
بقدر ما يطبق القانون بقدر ما نحب الوطن . فلا محاباة ، ولا من أهلي ، ولا من جماعتي .
تطبيق القانون (( العدل )) ــ وهي صفة من صفات الله . فحري بالدولة تطبيق الشيء العام على الجميع .
كانك تريد دوله بلا قانون
كانك تريد دوله بلا قانون؟
شكرا لهذا القلم الرصين
مقالاتك دائما قوية منطق وحجة هؤلاء هم أبناء البحرين شكرا لك
صديقك
مقال رائع والى الامام يا شريف البلد.
حبيت اذكرك ايام الدراسة في مدرسة الشيخ عبد العزيز الثانوية!
أحد اصدقائك