العدد 3509 - الأحد 15 أبريل 2012م الموافق 24 جمادى الأولى 1433هـ

زيارة الملك حمد بن عيسى لليابان ودلالات الانفتاح على الشرق (2 - 2)

محمد نعمان جلال comments [at] alwasatnews.com

سفير مصر الأسبق في الصين

لقد جاء انفتاح مملكة البحرين على اليابان مقدمة مهمة للانفتاح على الشرق الآسيوي الذي يحتضن أهم اقتصاديات العالم ويمثل حضارات متنوعة ولكنها تؤمن بمبادئ ثلاثة: الأول هو مبدأ العمل والإصلاح عبر الوسائل السلمية الحقيقية وليس السلمية شعارا، وغير السلمية عملا كما هو حادث في عدد من الدول العربية ومن بينها مصر حيث أدمن الثوار الانترنت بأكثر ما اعتادوا العمل وسط الجماهير ومعرفة احتياجاتهم، فاهتموا بالتظاهر في الميادين أكثر مما اهتموا بالعمل في المصانع ومواقع الإنتاج. ومن هنا اختطفت قوى أخرى الثورة التي أطلق شرارتها شباب متقدم علميا وفكريا ولكنه لم يحقق التقدم بالالتحام بالفكر الواقعي في صفوف الجماهير ويدرك احتياجاته الحقيقية، فليس بالخبر يحيا الإنسان كما قال السيد المسيح (ع)، وليس بالفكر والروح يعيش الإنسان ولذلك قال الإمام علي (رض) «لو كان الفقر رجلا لقتلته».

لقد اهتم الثوار وفصائل من الشعب بالبحث عن الغنائم بأكثر من حرصهم على بناء أسس المجتمع الجديد الذي يلبي مطالب واحتياجات الشعب، فلا كرامة لجائع ولا حرية لعاطل ولا وفاء بالحقوق دون الواجبات، ولعل هذا هو مأزق ثورة 25 يناير في مصر.

الثاني، مبدأ احترام الدين وفي نفس الوقت عدم السماح له بالتأثير على تماسك المجتمع أو الإنتاج أو علاقات الأفراد لأن الولاء الأول يجب أن يكون للدولة كما في اليابان أو الصين، وهو سر تقدم هذين المجتمعين وغيرهما مثل كوريا وتايلند وسنغافورة وفيتنام وهونغ كونغ وغيرها من النمور الآسيوية، ناهيك عن الدول الأوروبية. هذا الفاصل بين الدين كعقائد وشعائر وبينه كسياسة يسعى علماؤه للهيمنة على المجتمع أحد أسباب التخلف في الشرق.

إن القراءة الصحيحة للمفاهيم الإسلامية تجعل الدين بعيداً عن السياسة، وجاء الخلط من احتكاك الشعوب الإسلامية بالحضارات الأوتوقراطية القديمة. ومن يسترجع للذاكرة الصراع بين المشركين والدعوة الإسلامية وعروضهم على النبي محمد (ص) بأن يؤتوه الملك والمال ويترك آلهتهم وشأنها فرفض النبي الكريم الملك لأن الملك لله يؤتيه من يشاء، وليس للدين كدعوة وكشعائر وعبادات شأن في ذلك. فكم من الأتقياء الورعين ماتوا فقراء وبلا مناصب بل ومطاردين، والخلفاء الأربعة الراشدون رضوان الله عليهم لم يأتوا نتيجة للتقوى والدين والورع أو العلم، وإنّما نتيجة اختيار الشعب لهم بأسلوب يتسم مع ظروف ذلك العصر الإسلامي الأول ومع ظروف الحضارات القديمة التي كانت سائدة آنذاك، والخلفاء الذين تعاقبوا على الدول الإسلامية على اختلاف العصور جاؤوا بالغلبة والسلطان؛ لأن ذلك كان سمة الزمان.

الثالث، مبدأ التناغم والتوافق، والأديان والفلسفات في شرق آسيا خصوصاً في دول الحضارة الصينية (الصين واليابان وكوريا والهند الصينية)، الذي عبّرت عنه فلسفات كونفوشيوس، ولاوتزو ومنشيوس، ونظرية الين واليانج هي نفس ما عبرت عنه الفلسفة الإسلامية في تناسق الكواكب وسير كل منها في مجراه، فلا الليل يسبق النهار و«كلٌ في فلك يسبحون» كما في القرآن الكريم.

كما أن لكل من المخلوقات البشرية أو الكيانات غير البشرية خصائصه والغرض منه في تناسق بديع بموجب الإرادة الإلهية والتناغم الكوني، وهو مثل التناغم بين الآلات الموسيقية. هذا التناغم في الحضارات الآسيوية جعلها قادرة على استيعاب الأديان والعقائد المتعددة وصهرها في بوتقة وطنية، فلا البوذية الهندية مثل البوذية الصينية ولا هما مثل البوذية اليابانية. إنها بوذية وطنية مئة في المئة في كل دولة مرجعيتها وطنية خالصة حيث تنصهر في العقائد التقليدية الوطنية لتخرج توليفة مثلما قال الفيلسوف الألماني هيغل في الفكرة ونقيضها والتوليفة الجديدة. ولقد دلنا القرآن الكريم على هذا الديالكتيك الثلاثي في الخلق والإبداع والابتكار عندما تحدّث عن دورة الحياة: «يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي» في تركيبة متصاعدة تعكس القدرة والحكمة الإلهية العظيمة.

إننا في الشرق الأوسط بحاجة لفلسفة التناغم الآسيوية، أو بالأحرى للفلسفة القرآنية في نبعها الصافي بعيداً عمّا لحقها من أفكار بشرية واجتهادات شخصية أدخلت عليها مفاهيم ليست من طبيعتها فنتج عنها تغذية الصراعات والأحقاد والخلافات بين الطوائف والملل والنحل. ولقد حذرنا الرسول الكريم من هذه الاختلافات ودعانا للتمسك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعدهم الذين كانوا وحدة واحدة أو على قلب رجل واحد مهما اختلفت اجتهاداتهم، ولذلك قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. وفلسفة الشرق الأقصى الآسيوي هي فلسفة استيعابية وليست إقصائية، تدعو للاندماج والانصهار في بوتقة المجتمع الواحد دون إخلال بفكر كل فرد أو عقيدته. هذا التناغم في الحضارات والفلسفات الآسيوية هو الذي جنبها الكثير من الصراعات حول قضايا ماورائية أو ميتافيزيقية لا يمكن حسمها بين البشر، وهذا الهارموني هو الذي سمح لها بالبناء والتقدم والتنمية وتطوير المجتمعات بدلاً من الحياة في دائرة الفقر والتخلف المفرغة.

إن زيارة جلالة الملك لليابان يمكن أن تفتح على البحرين، مجتمعاً وشعباً ونخباً، سياسيين وعامة، كنزاً لا ينضب معينه من التجارب ومن الفكر العالمي من منظور مختلف، كما يمكن أن تحمل للشعب البحريني كثيراً من الخير نتيجة الاتفاقات التي عقدت. وهكذا فإن القيادات الواعية تسعى لبناء أوطانها عبر الانفتاح على المتقدمين والابتعاد عن المتخلفين ثقافياً وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً، الذين لا يفكرون إلا في الصراع المدمر للشعوب، ويعيشون في شعارات لا تعكس التطور وروحه ولا تعكس سنة الله في الكون، فتحية للملك على هذه المبادرة السياسية المهمة، وتهنئة لشعب البحرين بنتائج هذه الزيارة والتطلع لانتقال البحرين إلى مرحلة جديدة من الفكر والثقافة والسياسة والتنمية والتكنولوجيا لمصلحة هذا الشعب الطيب ودعوة لعودة الوئام والتناغم والانسجام بين كافة طوائف المجتمع صاحب الحضارة العريقة التي سبقت كثيراً من الحضارات في المنطقة.

إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"

العدد 3509 - الأحد 15 أبريل 2012م الموافق 24 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً