تمثل زيارة جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين لليابان علامة مميزة في علاقات البحرين بل ودول مجلس التعاون الخليجي الخارجية. ولقد كان الانفتاح على الشرق الآسيوي هو احد أحلامي كما هو حلم عدد لا بأس به من الكتاب والمفكرين العرب الذين درسوا العلاقات الدولية وتطور الحضارات من منظور السياسة الواقعية واستشراف المستقبل ولذلك كرست أربعين عاما من حياتي ولاأزال أتابع قضايا الشرق الآسيوي، وتحدياتها للعالم، وهو تحد ايجابي من اجل البناء والتقدم حيث أعددت رسالتي للماجستير عن الثقافة الصينية والتغير السياسي، ورسالتي للدكتوراه عن العلاقات بين اليابان والصين، ونشرت بحوثا عدة عن السياسة والثقافة اليابانية وكذلك الصينية بالطبع. وزرت الدولتين عدة مرات وعملت سفيرا لمصر في الصين حيث شاهدت كيف يتشكل القرن الحادي والعشرون ليكون قرنا آسيويا بامتياز.

بالطبع القوى الآسيوية الرئيسة الصاعدة تضم الهند بالإضافة لليابان والصين وهي تمثل الثلاثي الآسيوي ولقد شاء حظي أيضا أن عملت بها مستشارا للسفارة المصرية في نيودلهي، وتعرفت عن كثب على التجربة الهندية والثقافة والحكمة الهندية بمدارسها المختلفة.

ولكنني سأركز هنا على اليابان وشرق آسيا فالهند معروفة جيدا، وإن لم يكن بالقدر الكافي الذي تستحقه، لدى شعوب دول مجلس التعاون الخليجي وتأثيرها واضح في الثقافة والسياسة والثياب والطعام، بخلاف الثياب والثقافة والطعام الياباني أو الصيني فهو اقل انتشارا ومعرفة في الشرق الأوسط بما في ذلك كثير من نخبة الفكر والفلسفة اليابانية أو الصينية بالغة المحدودية. وتظهر الدراسات المقارنة بين الصين واليابان مدى تأثر اليابان تاريخيا بالحضارة الصينية العملاقة ولكن دون أن تفقد اليابان هويتها الذاتية وروحها الخاصة وهو الشيء نفسه الذي حدث مع الصين التي تأثرت بالثقافة البوذية الهندية ولكن دون أن تفقد روح ثقافتها الكونفوشية.

المهم هو أن الانفتاح البحريني على اليابان من خلال زيارة جلالة الملك هو انفتاح على ثلاث حقائق بالغة الأهمية:

الأولى العلوم والتكنولوجيا التي تفوقت فيها اليابان ومكنتها من أن تغزو العالم وتثبت أن التكنولوجيا والقوة العسكرية والإنتاج الاقتصادي المتميز، ليس حكرا على الدول الأوروبية خاصة أو الغربية عامة، ولذلك عندما انطلقت ثورة الميجي العام 1866 في اليابان أو بمعني أدق حركة إصلاح الميجي بل إن التسمية الرسمية لها هو حركة الاستعادة أي استعادة الروح اليابانية القديمة أو ما نطلق عليه اليوم مصطلح الأصالة الحضارية للشعب وتراثه وقيمه وسلوكياته فاليابان لا تؤمن بفكرة الثورة كما عندنا في الشرق الأوسط وإنما تؤمن بالإصلاح الجذري الذي يحدث نقلة نوعية في السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا في شتى أنواعها... أدى ذلك لتفوق اليابان وهزيمتها لروسيا القيصرية الأوروبية وهزيمتها للصين التي كانت تعاني من التخلف في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، بل تفوقت اليابان تكنولوجيا على الولايات المتحدة وغزت السوق الأميركية سلميا بعد أن غزتها الولايات المتحدة عسكريا. وهذا يثبت مقولة القوة الناعمة التي تحدث عنها العالم السياسي الأميركي المعاصر جوزيف ناي.

الثانية الانفتاح على الثقافة اليابانية التي تقوم على احترام الرعية للحاكم بما يشبه التقديس، فالإمبراطور الذي اعتبر سليلا للالهة ومن ثم فان شخصه ودوره مقدس، وإرادته لا ترد، وهكذا كان الأمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية فرغم ضرب أميركا ناجازاكي وهيروشيما بالقنابل الذرية التي تستخدم لأول مرة، واتمنى أن تكون الأخيرة، ضد دولة وشعب كان قاب قوسين أو ادني من الهزيمة في الحرب العالمية الثانية فان هذا الشعب الياباني البطل الملتف حول الإمبراطور كقائد رفض الاستسلام ولكن شجاعة الإمبراطور هيروهيتو دعته للخروج على شعبه وإعلان استسلامه حفاظا على أرواح هذا الشعب من الدمار أو الأذى، وهكذا كان الإمبراطور يثبت لشعبه إيمانه به كما أن الشعب كان لديه إيمان بالإمبراطور وحب له، وفي خطبة بليغة أعلن الإمبراطور الاستسلام أمام القوة الطاغية المدمرة، وأنا انصح قادة الكثير من الدول العربية والشرق أوسطية أن يقرأوا هذا الخطبة ويفهموا معانيها ومغزاها بدلا من أن يدكوا شعوبهم بالدبابات والطائرات والمدفعية شهورا كثيرة من اجل الحفاظ على كراسيهم في دول جمهورية جاءوا إليها بانقلابات عسكرية أو وبمحض الصدفة وبتشويه الحقائق وتزويرها وتزوير إرادة الشعوب بفكر ايديولوجي لا يؤمنون به وإنما هو وسيلة لإخضاع شعوبهم.

إننا في المنطقة العربية في حاجة لأن نتعلم من الشعب الياباني ومن القيادات اليابانية أربعة أمور الأول احترام القيادة السياسية العليا والثاني احترام قدسية العمل والإنتاج والثالث احترام أفراد الأسرة لبعضهم البعض ويتجلى ذلك في انحناءات الياباني أمام أسرته أو امام رؤسائه وتزداد درجة الانحناء كلما ارتفع منصب أو مكانة الطرف الاخر. لقد تعلمت شعوبنا ثقافة الكاوي بوي وأفلام رعاة البقر ونسيت قيمنا الإسلامية وتقاليدنا كما نسيت ان هناك ثقافات غير ثقافة رعاة البقر والرابع التفكير في الواجب وأدائه قبل التفكير في الحقوق والمطالبة بالحصول عليها، ولهذا اضطرت الشركات اليابانية والمصانع لكي تغلق أبوابها شهرا من كل عام لتعطي للعمال والموظفين إجازة إجبارية لأنهم في ثقافتهم يؤمنون بالعمل والتفاني فيه وليس مثلنا في الشرق الأوسط نؤمن بعدم الإنتاج والحديث فقط في السياسة والتظاهر والمطالب والحقوق دون أداء الواجبات وكيف يتسنى الوفاء باحتياجات ومطالب الشعب إذا توقف الإنتاج وتعطل العمل وتدهور الاقتصاد وتراجعت السياحة وهرب الاستثمار الأجنبي.

الثالثة الانفتاح على الاستثمار الحقيقي وهو الاستثمار في الموارد البشرية، فاليابان دولة محدودة الموارد الطبيعية بدرجة ملفتة للنظر، ومع ذلك استطاعت بعد إصلاح الميجي وفي غضون سنوات قلائل أن تهزم روسيا القيصرية الأوروبية وتهزم الصين وتحتل أجزاء كبيرة منها وتحتل عددا من الدول في شرق وجنوب شرق اسيا، نحن لا ندعو للاحتلال من قبل أي دولة لدولة أو لدول أخرى، ولكن ذلك كان طبيعيا في القرن التاسع عشر وما قبله، فكان هناك ما عرف في القانون الدولي بحق الغزو أو حق الفتح ولكن ذلك كله أصبح محرما بعد قيام عصبة الأمم وأكثر تحريما بعد قيام الأمم المتحدة وصدور المواثيق والقرارات الدولية التي تحرم مجرد اللجوء للحرب كوسيلة من وسائل فض المنازعات الدولية ولم يعد يفكر بمثل منطق الغزو كوسيلة لبناء الدول وقيامها وتوسعها إلا قلة من الدول ذات الفكر المتخلف قانونيا وسياسيا وثقافيا.

وعودة لليابان الإصلاحية التي هزمت في الحرب العالمية الثانية وتم احتلال أراضيها واعتبرت دولة معادية بنص ميثاق الأمم المتحدة تحت مقولة انها غير محبة للسلام تحولت في غضون سنوات قلائل إلى قوة اقتصادية وتكنولوجية عملاقة غزت سلميا الولايات المتحدة وكثيرا من الدول الأوروبية وهكذا فعلت ألمانيا في أوروبا وأصبحت اليابان ثم ألمانيا هما القوتان الاقتصاديتان الثانية والثالثة في العالم حتى ظهرت لهما الصين وأخذت تحتل مكانهما فأصبحت الثانية بعد الولايات المتحدة في الاقتصاد والإنتاج والتكنولوجيا منذ نحو خمس سنوات، وهذا التقدم الياباني المذهل جاء نتيجة تركيز القيادة اليابانية على التعليم والجودة في الإنتاج والانضباط في العمل أصبح احد سمات المجتمع الياباني ثم الصيني الحديث، ولدى اليابان برنامج متميز للتدريب على الإنتاج وجودته في المصانع والشركات.