يذكر التاريخ أن الفيلسوف ديوجين كان يعيش على العدس لكي يستر جوعه، فرآه أثناء ذلك زميله الفيلسوف اريسيتبوس، الذي توصل إلى مقدار من حياة الترف والراحة بفضل تودده وتملقه لأصحاب الجاه، فقال الفيلسوف أريسيتبوس لزميله بسخرية: «لو أنك تتعلم كيف تتملق أولئك لما كان عليك أن تعيش على غذاء تافه مثل العدس»! فأجابه ديوجين باستصغار وازدراء: «ولو أنك تعلمت أن تعيش على غذاء مثل العدس لما احتجت قط إلى تملقهم وبيع كرامتك».
علماء الاجتماع يقولون إن هناك مقاييس تستخدم في تحديد الطبقة الاجتماعية - وهي لا تنطبق على المثقفين - وأول هذه الصعوبات هو التراث الاجتماعي المختلف عند المثقفين، إلى جانب أن المثقفين لهم دخول مالية متباينة غير مستقرة، وعلماء الاجتماع عندما يحددون معالم أية طبقة يذهبون إلى مصادرها الاقتصادية وليس العقلية أو الذهنية التي تمثلهم.
ويقف علم الاجتماع المعاصر حائراً في نظرته للمثقفين عند تصنيفهم في أحد الأنساق الاجتماعية البنائية، بمعنى هل يمكن تصنيف المثقفين ضمن طبقة معينة كما هو الحال لطبقة العمال وطبقة الفلاحين والتجار والصناعيين؟ الإشكالية الأخرى أيضاً أن علماء الاجتماع ينصب اهتمامهم على دراسة المشكلات الاجتماعية - تشخيصاً وعلاجاً - مثل الجريمة والطلاق والفقر والإدمان إلى جانب دراسة الظواهر الاجتماعية السائدة ومحاولة معرفة تأثيرها على المجتمع مثل التحضر والتغير الاجتماعي والاستهلاك والموضة والحركات الاجتماعية.
والسؤال هنا: كيف يمكن تصنيف نشاط المثقف هل هو ظاهرة أم مشكلة؟ وهل يشكل الناقد والكاتب والمبدع والمخترع فعلاً مشكلة للمجتمع؟ وإذا كان مشكلة فهو مع من وضد من؟
هناك حقيقةٌ مفادها أنه من الصعب رسم أو تحديد وظيفة المثقف، فهي لا تشكل ظاهرةً يمكن تصنيفها لأنها لا تشبه حاجة المجتمع إلى المهندس والطبيب. ولو أخذنا مهنة المعلم كمثال لقلنا إن هناك أفراداً يحتاجون للتعليم وهناك مدارس يعمل فيها المعلم وهناك كليات معلمين يدرس ويتدرب فيها المعلم، وهناك جامعات يمارس فيها الأستاذ الجامعي مهنته وهناك نقابة للمعلمين تجمعهم وتنسق مناشطهم، لكن وظيفة المثقف التي يتطلبها المجتمع متعددة ودوره غير متفق عليه.
من وجهة نظر ريجيس دوبريه، لا جدوى لدور المثقف في عصر العبادة العالمية للمرئي (أي التلفزيون) الذي صلاته الوحيدة (انظروا إلى أولاً والباقي لا أهمية له). ويعلق ريجيس على سؤال مهم: «متى يخون المثقف وظيفته؟» قائلاً: «إن المثقف يخون وظيفته في حالتين: إما أن يروّج إعلامياً أو لا يروّج! فإذا روّج إعلامياً أصبح ممثلاً فاشلاً أو مفوّهاً أو واعظاً وبذلك يخون أخلاقية المهنة القائمة على التحليل المنطقي للأشياء، وإذا لم يروج إعلامياً فإنه يخون وظيفته لأنه يتخلى عن الالتزام وممارسة التأثير ويصبح أسير صفاء عزلته. لكن نزار قباني ينظر إلى الالتزام بطريقته الخاصة، إذ يقول: «الكتابة ليست مقهى نشرب فيه الشاي والينسون وليست اصطيافاً على شاطئ نيس وكان وجزر الكناري. إنها اشتباك يومي بالسلاح الأبيض ضد القبح والفكر الفاشستي... الكتابة ليست فعل امتثال ولا فعل رضوخ ولا فعل تنازل، ولكنها فعل انقضاضي على كل بشاعات هذا العالم. من يقول لك إنه كاتب محايد فهذا يعني أنه كاتب ميت. ليس في الكتابة منطقة منزوعة السلاح أو منطقة حرام أو منطقة تتولى الأمم المتحدة فيها الفصل بين المتحاربين. فالكاتب الذي يعلق على جبينه لوحة من لوحات السيارات الرسمية يتحول إلى شاحنة لنقل النفايات»!
على الجانب الآخر المرحوم الأديب غازي القصيبي لا يجد ضرورة في ربط المثقف بالمبادئ لأن المثقف هو بالضرورة إنسان ويقول: «هناك مثقف مثالي، وهناك مثقف أناني، وكذلك مثقف صاحب مبادئ وآخر انتهازي... إلخ». نستنتج من حديث القصيبي أن المبدأ ليس له علاقة بالثقافة، فقد يكون الإنسان بدون ثقافة ويكون محملاً بمبادئ عالية، والعكس صحيح، فقد يكون الإنسان ذا ثقافة عالية وهو بلا مبادئ على الإطلاق.
لكن المرحوم هادي العلوي يقدم صورة نموذجية للمثقف ويدشنه بلفظ «المثقف الكوني»، ويعرّفه أنه المتصوف أو التاوي (نسبة إلى الفلسفة التاوية الصينية) وذلك في كتابه «مدارات صوفية». ويقترح العلوي في «المثقف الكوني» عمق الوعي المعرفي والاجتماعي والعمق الروحاني، بمعنى أن يكون قوياً أمام مطالب الجسد، ومترفعاً عن الخساسات الثلاث (السلطة، المال، الجنس).
يبدو أن دور المثقف محكوم بوجهين: ما يتوقعه الناس منه للمطالبة بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية وكشف الفساد الرسمي ودفع الرأي العام إلى تشخيص العاهات والتقرحات، وبين القيود المفروضة عليه من قبل أصحاب السلطة والمراكز العليا والنظر إليه بريبة وأنه أداة تحريضية تهدد مواقعهم فيما يشبه صراعاً خفياً بين ممارسة الواجب الوطني والأخلاقي وما يفرضه شرف المهنة، وبين الإغراء بالمال والمناصب العليا أو التهديد بتكميم الأفواه.
في تقديري هذه الثنائية ستستمر، بمعنى أن علماء الاجتماع سيواصلون دراسة دور المثقف الاجتماعي كما يدرسون دور الأب أو المعلم أو الطبيب أو رجل الدين (كمنشئ ثقافي). وفي الوقت نفسه سيستخدم المثقف سلطته الإعلامية والمعنوية لإيصال مؤثراته الفكرية لتكوين قاعدة وعي سواء عبر الجامعة أو الجامع أو المسرح أو الرواية أو الوسائل الثقافية المتنوعة. وهكذا ستستمر جدلية دور المثقف وعلى الأخص الجاد غير المتزلف، فهو يصر ويباهي بكونه «عصي الدمع شيمته الصبر». ومساحة الحريات في الوطن العربي ستضج معلنةً أن لا صبر لها على جرأة المثقفين.
الحديث عن بزوغ أو موت دور المثقف يذكرني بمقولة عزيز السيد جاسم «لقد ذبح الكبش فداءً لإسماعيل، ولكن لو ذبح إسماعيل فما قيمة أن يذبح الكبش».
إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"العدد 3508 - السبت 14 أبريل 2012م الموافق 23 جمادى الأولى 1433هـ
تحليل رائع للمثقف
مقال جميل من كاتب مبدع كما أعرفه ، أتمنى أن تكون هناك سلسلة مقالات من الكاتب حول وظيفة المثقف ، وبالأخصّ ( المثقف الديني ) .
مفيد
شكرًا للمقال المفيد الذي يضيف للقارئ والذي يتطلب بعضا من البحث لا مجرد راي انطباعي لا مرجع له الا النفس وتصوراتها الذاتية وان كان في كل خير بل وشر أيضاً حسب إناء الكاتب
ممتاز و لكن
مقال و فكر ممتازين. لكن أين الموقع الذى يتحدث عنه الكاتب؟ هنا أو القمر؟