العدد 3507 - الجمعة 13 أبريل 2012م الموافق 22 جمادى الأولى 1433هـ

العبث بالسِّلم الأهلي... لا ظَهرًا أبقى ولا سَفرًا قطع

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

كل الأشياء إلى زوال. فـ «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ. وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ» (الرحمن: 26-27). والدول، ليست استثناءً من ذلك الزوال والفناء. فأعاظم الامبراطوريات وأكثرها صِيْتًا، قد ذهبت ريحها وأصبحت خرابًا. الساسانيون والأخمينيون والفينيقيون والسومريون والفراعنة، وما تلاهم من دول، هم اليوم، أثر بعد عين. والزعامات الكبيرة، كالإسكندر المقدوني، والقيصر الروماني نيرون، وإضرابهم ذهبوا إلى لحودهم.

آرنولد توينبي (أبريل/ نيسان 1889 - أكتوبر/ تشرين الأول 1975) وهو من جهابذة التاريخ قال مرة «الحضارات، تنعقد نطفتها وتولد ثم تنمو وتزدهر وتأفل ثم تتحجّر». وما بين انعقاد النطفة والتحجُّر، هناك مراحل. هذه المراحل، هي المساحة التي يُمكن للإنسان أن يتحكَّم فيها. فهناك من الدول من تكون قادرة على أن تجعل من نموها عاليًا جدًا، وأرفع وأرقى من دول أخرى، باختطاطها، مناهج علمية متقدمة، وعقول تتناقش بشكل حر، تنظر لها الدولة، باعتبارها ركيزة للتطور.

وهناك دول، قادرة على أن تمد من ازدهارها، ليصبح سنين مديدة تزيد حتى على مئات السنين، إن هي قامت وتشيَّدت على الحكم الرشيد، والحر، القادر على الاستماع للجميع، والسيادة على الناس بسعة الصدر، وفتح مراوح تهوية للدولة، والقيام بعمليات تشريب لجوانبها، يكون مصدرها المجتمع، والطبقة الوسطى، المفكِّرة بالتحديد، التي تكون بمثابة الظل للدولة، تنتمي إليها بشكل عضوي، ولكن على هيئة انتساب معنوي متكامل في الهوية والانتماء.

نقول هذا الحديث، لأننا نرى، أن هناك من الدول، من يصنع العكس، فيكون نموّه معوَجاً، وازدهاره قصيراً للغاية، هذا إذا كانت لديه فرصة لأن يزدهر ويتطور. كثيرة هي الدول، التي تعثرت مسيرتها فانكفأت. وهناك من الدول، من عاشت الأزمة طيلة حياتها دون وتوقف، فذهب ريحها. وربما كانت العلل الأشد في أن تكون على ذلك الحال، هو الفشل في حماية سلمها الأهلى من التشظي، الذي هو نتاج طبيعي للفشل السياسي للدولة، وعدم تحكيم أفضل تجارب الحكم والإدارة.

موضوع السِّلم الأهلي ليس مزحة. هو الزاوية التي تستوي عليها كل الأمور.الفيلسوف الصيني القديم منسيوس، اختصر الأمر وقال «إن الناس هم أهم عناصر الأمة والدولة، وإن الحكم أقل هذه العناصر شأناً» هذه هي الحقيقة. وبالتالي يصبح العبث بها بمثابة العبث بأصل الوجود والبقاء. رأينا ذلك في العديد من التجارب، سواء في وسط وجنوب إفريقيا، أم في آسيا، وحتى في أميركا الجنوبية، فضلاً عن أوروبا ما قبل عصر الأنوار والثورة الفرنسية.

إذا كنا نقول، بأن أبسط مقومات الدول، هي الأرض النظام السياسي والشعب، فهذا يعني أن فقدان أيّ منها يعني انتهاءها وعدم تحققها. عندما لا تكون هناك أرض، فأيُّ تمثِّل يمكن أن يقوم إذًا. أين صوت الشراكسة وكيانهم اليوم، بعد انتهاء العاصمة سوتشي في القرن التاسع عشر على يد الروس. وكذلك الحال بالنسبة لمملكة صقلية والكونفيدرالية الجرمانية وكونفيدرالية الراين التي انتهت إلى غير رجعة.

وفي العَمَد الثاني، فلا يمكن أن تكون هناك دولة، دون وجود نظام سياسي. فالحكومة يمكن أن تتواجد بسهولة دون قوانين، لكن القانون لا يمكن أن يوجد دون حكومة، كما قال الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل. ولكل مَنْ قرأ التاريخ، سيجد، أن الدول الممحوَّة، كان سبب امحائها هو ضياع الحكم، سواء بسبب سوء الإدارة، أو الحكم الشمولي القاسي، أو حتى من خلال انشطار ذلك الحكم، على مجموعة من الهامات والرؤس.

أما وجود الشعب، فهو العنصر الأهم من بين كلّ تلك المقومات. وعندما نقول بالوجود، فإننا لا نعني الوجود المادي الصرف فقط، وإنما الوجود المادي المقرون بمجموعة من الميكانيزمات، التي تجعل منه شعبًا قادرًا على أن يكون مساهمًا في إنتاج الدولة، القادرة على التعبير عن تطلعاته، وبالتالي، انعكاس ذلك على قدرتها هي أيضًا، على قياس اتجاهات الشعب ومتطلباته الإشباعية المادية والنفسية، وجعله كتلة صمَّاء في الوطنية، وعدم منحه فرصة النظر إلى أشياء تشجع على الولاءات الفرعية. حينها نستطيع أن نقول، بأن هذا الشعب هو بالفعل ناهض.

العديد من الدول، ومع شديد الأسف، تلجأ إلى شعوبها لا لكونهم أحد أضلاع تكوُّن الدولة، وإنما كونهم ورقة، يتم توظيف مشكلة أنويتها وتناقضاتها في قضايا ضيقة وشخصية، تتعلق بالعجز عن إجراء الإصلاحات السياسية، أو تغيير الأولويات، فيتم جرّ طوائفه أو إثنياته إلى خط التماس والصِّدام، لكي يظهر النظام السياسي القائم، أمام الأقليات والبطون الشعبية الرخوة، بمثابة المنقذ، القادر على حمايتها من الحيف، أو حتى في الوجود.

هذا الخيار قد تم تجريبه في أماكن عديدة، وفي حقب مختلفة، لكن نجاحه لم يدم طويلاً. لم ينجح في استثماره لا القيصر الروسي والكنيسة الأرذوكسية، ولا البوربونيون والملكية الفرنسية في أوروبا، والسبب في ذلك واضح، وهو أن تحريك الشعوب على غير سَمْتها الطبيعي، هو بمثابة الحفر تحت القدم، الذي يؤدي إلى أن يقع بسببها الجميع بالسواء، وبالتالي، فإن موضوع السِّلم الاجتماعي والأهلي، يصبح أحد أهم ملامح تطور الشعوب والدول، وفي الوقت نفسه، السبب في تحول هذه الدولة أو تلك إلى نظام من الفوضي، الذي لا يتركها إلاَّ وهي قاعٌ صَفْصَف.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3507 - الجمعة 13 أبريل 2012م الموافق 22 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 8 | 3:32 ص

      هذا الخيار قد تم تجريبه في أماكن عديدة، وفي حقب مختلفة، لكن نجاحه لم يدم طويلاً. لم ينجح في استثماره لا القيصر الروسي والكنيسة

      ، والسبب في ذلك واضح، وهو أن تحريك الشعوب على غير سَمْتها الطبيعي، هو بمثابة الحفر تحت القدم، الذي يؤدي إلى أن يقع بسببها الجميع بالسواء، وبالتالي، فإن موضوع السِّلم الاجتماعي والأهلي، يصبح أحد أهم ملامح تطور الشعوب والدول، وفي الوقت نفسه، السبب في تحول هذه الدولة أو تلك إلى نظام من الفوضي، الذي لا يتركها إلاَّ وهي قاعٌ صَفْصَف.

    • زائر 7 | 2:41 ص

      هل من واع

      بارك الله فيك على المقال ولكن هل من متعض هل من يقراء التاريخ يأخذ العبر اقول عمك اصمخ
      كما قال الامام علي علية السلام
      الدنيا يومان يوم لك ويوم عليك

    • زائر 6 | 2:39 ص

      في الصميم

      لعل أذن تسمع وقلب يعي
      مقال في الوقت المناسب وكله حكم
      بارك الله فيك أبو عبدالله

    • زائر 4 | 1:36 ص

      مقص

      أهني نوع التطور والازدهار يقرا عشان يوهمون الناس ابه لكن في الواقع غير موجود واول ما يقرا يطير كل حرف منه فوق ومن غي رجعه 

    • زائر 1 | 12:07 ص

      كلمة سواء

      كلام سليم 100 % بارك الله فيك يا اخ محمد والله يهدي الجميع الى كلمة سواء

اقرأ ايضاً