في العاشر من يوليو/ تموز 2010 كنت مازلت طريح الفراش بأحد مستشفيات الساحل للتداوي من تعفّن في الرئتين, وكانت في الخارج فيالق من البوليس السياسي تنتظر لحظة القبض عليّ لتنفيذ حكم ظالم بـ 4 سنوات سجنا على خلفيّة تغطيتي الصحافيّة لأحداث انتفاضة شعبيّة بالمنطقة المنجمية بمحافظة قفصة مطالبة بالتشغيل والعدالة الاجتماعيّة, غير أنّ ذلك لم يثنني على إطلاق صيحتي الحادة والتي تناقلتها وسائل إعلام عدة في تونس وخارجها: «إنني حين اخترت مهنة الصحافة، فقد اخترت صف الكلمة الحرة والنظيفة والمنحازة للحقيقة، وأنا أعرف جيدا الضريبة المفروضة على من اختار هذا النهج. وأنا لن أكون أقل جرأة وشجاعة ممن سبقني في هذا الدرب، فلن تربكني الأحكام الجائرة ولن أتخلف عن تقديم الضريبة ولو كانت حياتي، فلتكن حياتي ثمنا وفداء للحرية والديمقراطية».
وحتّى حين سقت إلى معتقلات بن علي بعد خمسة أيام من ذلك لم ينطفئ رأيي ولم تخرس إرادتي في رفع صوتي وتابع العديد مواقفي ممّا يحصل في بلادي تحت نير الدكتاتورية من خلال رسائل زوجتي الأسبوعيّة التي تنشرها بعد كلّ زيارة.
غير أنّه في كلّ اللّحظات التي كنت أفرض فيها حقّي في الكتابة وفي مساءلة النظام والقائمة على كلّ الجرائم التي يرتكبها في حقّ شعبي وفي فضح سياسات التفقير والتصحير والتعتيم, والتي تزوّدني بمواطنة حقيقيّة, كانت تنبت في داخلي جراح في أنّ قلّة قليلة تتمتّع بهذا الكنز في حين ترزح الأغلبية الساحقة تحت الحكم بالصمت وتُحرم من وسائل التعبير عن هواجسها وكوابيسها بعد أن اغتال النظام مهنة الصحافة وطوّع المتواضع منها لخدمة قلب الحقيقة وتزييف المعطيات الموضوعيّة.
لكن لمّا حرّرني الربيع التونسيّ في 19 يناير/ كانون الثاني 2011 واعترضني أمام باب السجن طاقم صحافي للتلفزيون «الرّسمي» ومرّر في اليوم نفسه لحظة خروجي تيقنت أنّ زلزالا عميقا قد حصل وأنّه قد بات للتونسيات والتونسيين منابر إعلاميّة أوسع لبناء تونس أخرى حرة وديمقراطيّة. وفعلا بعد عام من الثورة تنوعت العناوين الصحافيّة وتعدّدت, وبرزت للنور إذاعات وتلفزات ومواقع إلكترونيّة شتّى, وتأسست مئات الجمعيات والأحزاب, وأصبح التظاهر والتجمع والاحتجاج ثمرة متاحة للجميع، ما سهّل لأوّل مرّة في تاريخ بلادنا المرور إلى انتخابات شفافة أفرزت حكومة شرعيّة ومنتخبة.
وحين كان يُنتظر من هذه الديمقراطيّة الوليدة أن تكون مثالا للجماهير المنتفضة في المنطقة العربيّة واستفزازا للديمقراطيّة المترهلة في الغرب الأوروبي بات الربيع التونسي يُهدّد بشتاء جليدي قد يتراجع بها وينسف أهم اسسها: حرية التعبير. فالمؤسسات الإعلاميّة «الحكوميّة» التي كنّا ننتظر دمقرطتها عيّن على رأسها رجالات من النظام السابق, وأغلب الصحف الجديدة بعثها رجال أعمال فاسدون راكموا ثرواتهم من رشا بن علي, أمّا قديمها فلم يفعل غير تغيير قشرته مبديا استعدادات فطريّة للارتماء في حضن السلطة الجديدة والتسبيح بحمدها على حساب المهنيّة وأخلاقياتها. بل عاد البوليس لممارسة هواية تصيّد الصحافيين والاعتداء عليهم في ظلّ إفلات كامل من العقاب. وفي الوقت الذي كنّا ننتظر فيه حماية الصحافيين وتوفير الحصانة لهم ارتفع نسق مساءلتهم الأمنية ووقوفهم أمام القضاء انتهى أخيرا بحبس أحدهم في حين يتهدّد قناة «نسمة» الخاصّة قرار بالحجب على خلفيّة تمريرها للفيلم الإيراني «بيرسيبوليس» الذي أتّهم بتجسيد الذات الإلاهيّة.
والأدهى أنّه ليس فقط أنّ البوليس وكثيرا من أرباب المؤسسات الإعلامية من باتوا يكبحون جماح الصحافي في إطلاق ملكاته وقدراته, بل أضحت «ميليشيات أهليّة» تضاهيهم في لعب هذه الأدوار تحت يافطة حماية الأخلاق والدين وصلت حدّ استعمال العنف والتهديد بالقتل وسُخرت من أجل ذلك وبكثافة شبكات التواصل الاجتماعي لنشر الخوف والرعب, والتنظير لثقافة الموت وتحقير المرأة وتجريم الديمقراطيّة.
إذاً في هذا الجوّ الذي تتصارع فيه إرادتا إرجاع عقارب الساعة التونسيّة إلى الوراء, والتقدّم بمسار الديمقراطية في بلادنا يُعوّل أنصار الأخيرة على فكرة الاندحار النهائي لمؤسسات الخوف والمرور بتفاؤلهم التاريخي نحو المستحيل, وقد يلعب الصحافيّون دورا جوهريا في حسم هذه المعادلة.
إقرأ أيضا لـ "فاهم بوكادوس"العدد 3507 - الجمعة 13 أبريل 2012م الموافق 22 جمادى الأولى 1433هـ