العدد 3507 - الجمعة 13 أبريل 2012م الموافق 22 جمادى الأولى 1433هـ

اليتيم إبراهيم

عباس المغني abbas.almughanni [at] alwasatnews.com

فتح إبراهيم سلة القمامة وأخرج قطعة خبز، وقبل أن يضع لقمة في فهمه، وجد أمامه شخصاً مسكيناً ينظر إليه، فقسم الخبز إلى نصفين وقال: «أنت جائع وأنا جائع، لك نصف ولي نصف». إبراهيم طفل عمره 6 سنوات، فقد أمه وأبه، وليس له إخوان أو أهل، ظل يتيماً وحيداً في عالم موحش يتجرع فيه مرارة الفقر والحرمان.

بينما كان إبراهيم جالساً يتسكع بالقرب من كراج لتصليح السيارات، ناداه صاحب الكراج وطلب منه مساعدته في تنظيف وتنظيم الكراج، وأعطاه وجبة طعام بالإضافة إلى دراهم معدودة (300 فلس). سأل إبراهيم صاحب الكراج بعفوية: «لماذا أنت تملك نقوداً وطعاماً، بينما أنا لا أملك؟!».

فأجاب صاحب الكراج: «لأنني أملك مهنة وهي تصليح السيارات، بينما أنت لا تمتلك لا مهنة ولا حرفة، وقيمة الإنسان بما يجيد من عمل».

وهنا بدأت العلاقة بين الطرفين، إذ يأتي إبراهيم كل يوم يساعد صاحب الكراج، بهدف تأمين - وجبة الطعام - وفي الوقت نفسه تعلم مهنة تصليح السيارات.

عمل إبراهيم بجد ونشاط، يدقق في كل شيء في تصليح السيارات، وكثير الأسئلة. وكانت في الكراج مكنة عطبة خارج الخدمة، فيأتي إبراهيم في كل يوم إجازة يفككها قطعة قطعة، ثم يعيد تركيبها، فسأله مالك الورشة لماذا تفعل هذا مراراً وتكراراً؟

فأجاب إبراهيم: كي أتعلم مهنة تحميني من الفقر؟

خلال سنة واحدة، اكتسب إبراهيم خبرة كبيرة في تصليح السيارات، إلى درجة أنه بمجرد أن يرى السيارة تتحرك، يعرف العلة وكيف يمكن إصلاحها.

أطلقت شركات بي إم دبليو ومرسيدس ولكزس موديلات جديدة بأنظمة جديدة ومتطورة، وأصبح تصليحها في الوكالة فقط، لأنها ذات نظام جديد لا يعرفه أصحاب الكراجات.

شاهد إبراهيم بي إم دبليو ذات النظام الجديد في السكراب خارج الخدمة نتيجة حادث بليغ، فألح على صاحب الكراج الذي يعمل معه أن يشتريها بثمن بخس.

وأخذ إبراهيم كل يوم يفكك سيارة بي إم دبليو ويعيد تركيبها من جديد، وعندما سأله مالك الكراج عن السبب؟ رد إبراهيم: إنه نظام جديد، وتعلم ما هو جديد يجعلنا في موقع التفوق والتميز.

وأصبح أول كراج قادر على تصليح سيارات بي إم دبليو بالنظام الجديد، وبدأ الناس تتوافد عليه لأنه كما يقال «رخيص وقوي»، بالإضافة إلى ارتياح الزبائن لالتزام الكراج بالوقت المحدد من دون تأخير.

جاء شخص يصلح سيارته وهو مهندس في ميكانيكا الطيران اسمه محمد، وأعجب بكفاءة إبراهيم على رغم صغر سنه، وقال له: «نحن في المطار بحاجة إلى ميكانيكي في قسم السيارات في المطار، لماذا لا تعمل معنا؟».

عندما عمل إبراهيم في المطار كان كثير الاحتكاك بمهندسي الطيران، وكثير الأسئلة، يستفسر منهم عن محركات الطائرات، وعن كيفية اكتشاف الأعطاب والخلل، والصيانة والأجهزة المستخدمة في الكشف وغيرها من أمور الميكانيكا.

وجاهد إبراهيم للحصول على محرك طائرة خارج الخدمة سيلقى في السكراب.

وفي كل يوم إجازة، يستيقظ إبراهيم باكراً، ويبدأ بتفكيك محرك الطائرة قطعة قطعة، ثم يعيد تركيبه، ويتفحص الأجزاء بدقة، ويكرر ذلك مراراً وتكراراً، وفي كل مرة يذهب للعمل يسأل مهندسي الطيران عن كل قطعة في المحرك وكيف تعمل إلى جانب الكثير من الأسئلة والاستفسارات.

فبدأ المهندس محمد باصطحاب إبراهيم معه عندما توكل له مهمة الكشف على الطائرات وإصلاحها وصيانتها، فكانت فرصة لإبراهيم لكسب المزيد من المعرفة والخبرة.

ذات يوم توقف محرك طائرة قبل أن تقلع، وعلى ظهرها 120 مسافراً، وكان الوضع محرجاً، ولم يعرف المهندسون العلة، لكن إبراهيم أخبر المهندس محمد أن الخلل في تلك القطعة من المحرك، فتم استبدالها، وفعلاً في أقل من نصف ساعة عمل المحرك، وتم الكشف بالأجهزة فكانت النتائج مذهلة.

مدير الشركة، قرر أن يكرم المهندس محمد على إنجاز المهمة في وقت قصير جداً.

وخلال حفل التكريم، قال المهندس محمد: «إذا كان هناك شخص يجب أن يكرم، فهو إبراهيم لأنه هو صاحب الإنجاز وليس أنا!».

وقف مدير الشركة مستغرباً، وقال: «ليس لدينا مهندس اسمه إبراهيم».

فرد محمد: «إبراهيم الذي يعمل في قسم ميكانيكا السيارات».

فثار المدير كالبركان غاضباً: «كيف، ميكانيكي سيارات يصلح طائرات؟ من سمح له بالدخول إلى تلك المنطقة، ألا تعرف أنه ممنوع, نحن شركة محترمة تضع الرجل المناسب في المكان المناسب، كيف نسمح بميكانيكي سيارات يصلح طائرات، ماذا لو انفجرت الطائرة من سيتحمل المسئولة؟».

فأصدر المدير قراراً بإيقاف المهندس عن العمل لمدة 3 شهور من دون راتب، إلى جانب إنذار نهائي، وتسريح إبراهيم عن العمل، ورفع قضية على إبراهيم في المحكمة بتهمة التدخل في أمور قد تحدث كارثة.

ومن حسن حظ إبراهيم، أثناء مراجعة للمحكمة، تعطلت طائرة إيرباص جديدة في المطار، وعجز جميع المهندسين عن فهم العلة وإصلاحها، فتم استدعاء خبراء فرنسيين من شركة إيرباص.

وبدأ الخبراء من الصباح يتفحصون بأجهزتهم المتطورة الطائرة، وعند الغروب اكتشف أحد الخبراء العلة، وقالوا غداً سنكمل المهمة.

هذا الخبير ركب السيارة مع مهندس ليوصله إلى الفندق، وأثناء الحديث، ذكر المهندس للخبير قصة إبراهيم، فطلب الفرنسي من المهندس أن يحضر إبراهيم صباح الغد.

في اتصال هاتفي حضر إبراهيم، وقال له الخبير الفرنسي: «هذه الطائرة ما الخلل فيها؟. وخلال ساعتين اكتشف إبراهيم الخلل، وأعطاه الحلول لإصلاحه.

فتعجب الخبير وقال: «أنت عبقري، يجب أن تسافر معنا إلى فرنسا لتعمل في أكبر شركة لصناعة الطائرات في العالم».

وفي فرنسا، تم إعطاء إبراهيم فرصة التعلم في معهد أكاديمي لهندسة الطيران، والتحق بالكثير من الدورات والورش، وتزود بالمعارف والعلم، وبذلك كسب المهنة نظرياً وعملياً.

وأزداد مدخول إبراهيم إذ يتقاضى راتباً شهرياً مرتفعاً، وبعد سنوات فتح شركة لصيانة الطائرات، وخلال 10 سنوات، أسس شركة لتأجير الطائرات، ثم توسع تدريجياً، وأصبح ثرياً إيرادات شركاته لا تقل عن 300 مليون دولار سنوياً.

وعندما بلغ عمره 40 سنة، عاد إلى بلده، وفتح مكتباً ليدير شركاته من هناك، وعمل إبراهيم على ضخ ثروته في مساعدة أبناء وطنه، إذ يقوم ببناء مئات المنازل للفقراء، وإعادة بناء البيوت الآيلة للسقوط، وبناء مستشفيات ومدارس، ورعاية الأيتام... الخ.

وحرص إبراهيم على زيارة الفقراء والمحتاجين في منازلهم، وقضاء حوائجهم. حتى أنه في الصباح يشتري (السمبوسة والجباتي)، ويذهب إلى عمال النظافة الذين يعملون في قريته، ويأكل معهم الفطور المتواضع.

ويهتم بزيارة عجوز توفي زوجها وليس لها أبناء، وحيدة، ويناديها «أمي»، وفي كل يوم يسأل عن حاجتها، ويأكل الغذاء معها (عدس مع الرز).

أحد أصدقاء إبراهيم من الأغنياء، نصحه، بألا يقلل من مكانته بالأكل مع الفقراء، فرد إبراهيم بصوت الواثق بنفسه: «أنا عشت طفلاً يتيماً، وأكلت الخبز من القمامة، وأنا لا أتبرأ من أصلي، والجلوس مع الفقراء مصدر فخر واعتزاز».

واستطرد إبراهيم: «حب الإنسان لأخيه الإنسان أجمل ما في الحياة، فكل شيء هالك، ولا يبقى إلا ما أنضجه الحب... الأموال المكدسة في البنوك لن تنفعنا عندما نوضع في القبر».

إقرأ أيضا لـ "عباس المغني"

العدد 3507 - الجمعة 13 أبريل 2012م الموافق 22 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 11:19 ص

      bahraini

      Al sallam Alikum ,,very good story , Thank you

    • زائر 4 | 1:26 ص

      ابداع

      كل يوم تتحفنا بعبرة او حكمة اتمنى من الكل أخذ العبر وشكرا. والله يرحم والديك

    • زائر 3 | 1:20 ص

      ليت

      ليت ما قصصته يكون حقيقيا لعله يعزي قلبي في ناس هذا الزمان الاحتم

    • زائر 2 | 1:18 ص

      العبرة لمن إعتبر

      قصة جميلة ومعبرة فهل من معتبر

اقرأ ايضاً