العدد 3507 - الجمعة 13 أبريل 2012م الموافق 22 جمادى الأولى 1433هـ

هنا يحطون الرحال... حكايات الغوص والموج والعواصف

في الألف الثالث قبل الميلاد... جلبت سفن دلمون إلى «أورناشه» عطوراً...

قوارب وسفن قديمة وكميات كبيرة من الأخشاب في ورشة بناء السفن بالمحرق
قوارب وسفن قديمة وكميات كبيرة من الأخشاب في ورشة بناء السفن بالمحرق

في قمة الروعة والجمال كانت تلك البوانيش التراثية الموزعة حول دوار مجلس التعاون (دوار اللؤلؤة)، والمنظر الأجمل، أن في هذا الموقع... كان يا مكان... وفي الواجهة البحرية لقرية النعيم، عدة ورش لبناء السفن تصل إلى ما حول سوق الحدادة يديرها عدد من القلاليف البحرينيين (بنائي السفن)، وصمد منها مصنع واحد فقط هو للقلاف البحريني وبناء السفن الشهير الحاج محمد نجيب التيتون... مشهد تاريخي وتراثي رائع بمثابة مخزون ثقافي غني! واليوم، مع كل الكلام الكثير حول الحفاظ على الهوية التاريخية والتراثية والمخزون الثقافي الشعبي البحريني الخليجي الأصيل، لم يتبقَ إلا مصنع وحيد... هو مصنع المحرق لبناء السفن... غاب عنه قلاليفه وأصبحت مهنة الأجداد يتولاها العمال الآسيويون الباحثون عن لقمة العيش الكريمة، ولاشك في أن لهم كل الشكر والتقدير!


2000 سنة قبل الميلاد!

تجول ببصرك في تلك الورش المطلة على ساحل شارع الغوص... سفن بمختلف الأحجام اتخذت من المياه الضحلة مقبرة مؤقتة أو ربما دائمة لها... وسفن أخرى تستعد لعمليات إعادة الروح إليها، فيما تلوح قلعة عراد بشموخها التاريخي أيضاً لتراقب عن كثب أين حطت تلك السفن رحالها، بعد حكايات وحكايات من الغوص والموج والعواصف؟

في عددها السابع، خصصت «مجلة الثقافة الشعبية»، موضوعاً عن صناعة السفن باعتبارها من أقدم الصناعات التقليدية في البحرين، عرفها الإنسان منذ أقدم الأزمان لتكون أداته لارتياد البحر والوصول إلى أبعد الآفاق، وقد ظهرت أقدم نماذج سفن أهل البحرين على تصاوير الأختام الدلمونية والمنحوتات الحجرية التي يقدر عمرها بأكثر من 2000 سنة قبل الميلاد، صنعها الإنسان من جريد النخيل ومن أنواع مختلفة من الأخشاب مستخدماً في البداية الخيوط والحبال لشد هذه الأخشاب إلى بعضها، ومن بعد ذلك استخدم المسامير والوصلات المعدنية وعني بطلاء خارج هذه السفن بمزيج من زيوت الأسماك ومواد عازلة أخرى.

ومع تطور هذه الصناعة، ومن خلال التجارب والأسفار، اكتشف الصناع نوعاً من الأخشاب الصلبة الكثيفة المسام والمقاومة لتسرب الماء يطلق عليه محليا الـ (ساج)، وهو من أقوى الأخشاب التي تجلب من غابات الهند وأجودها على الإطلاق ما يصدر من مدينة كولكاتا... كان للصناع البحرينيين المهرة شهرة عريقة في المنطقة وكانت ورش الصناعة تنشأ على سواحل البحرين ودول الخليج وتضم عدداً كبيراً من أساتذة هذه المهنة ومساعديهم وعمالهم، ومن أضخم السفن التي بنيت قديماً في البحرين لحساب أحد الممولين الخليجيين سميت (أم الحنايا) وارتبطت بها أغنية شعبية معروفة مطلعها:

أم الحنايا جدفوها على السيف...

كلها صبيان تجر المجاديف...


أشهر قلافي المحرق

يعرف باني السفن باسم «القلاف» أو «الكلاف» وربما استخدمت الكلمة لاثنين: باني السفن وتاجر الأخشاب، ولأننا في المحرق، فلابد أن يعرف القارئ الكريم أشهر بناة السفن من أهل المحرق، وكما هو الحال في المنامة، حيث الحاج محمد نجيب التيتون هو شيخ القلافين المناميين الباقين على قيد الحياة، فإن الحاج عبدالعزيز شاهين خلفان هو شيخ قلاليف المحرق، ويتذكر الحاج خلفان (بوسعود) أولئك الذين رحلوا عن هذه الدنيا من القلاليف بالمحرق ومنهم محمد بودندن، سعود بن عبدالعزيز، عبدالأمير القيسي الذي انتقل قبل وفاته للعمل في ورش النعيم، وكذلك محمد الماجد ومحمد بوعباس وحسين بوحمد وأحمد بن عريفة رحمهم الله جميعاً... أساتذة من أبناء الطائفتين الكريمتين عملوا بسواعدهم السمراء في بناء السفن وأسهموا في نهضة البحرين.

ويرى الحاج خلفان أن بناء السفن لم يعد كالسابق فقلة من القلاليف يعملون اليوم، ومنهم أخي جمال شاهين خلفان الذي يعمل في بناء السفن لكن ليس بشكل كبير فقد اتجه لأعمال الديكور التراثي، وعن صيانة أو إعادة بناء البوانيش والشواعي القديمة المركونة على الساحل فيقول إن العملية مكلفة للغاية وكأنها صناعة سفينة من بدايتها، وهي مكلفة قد تزيد كلفتها على 10 آلاف دينار.


سفن دلمون وعطور «أورناشه»

وعميقاً في التاريخ، يكتب المؤرخ البحريني حسين محمد حسين الجمري عن تطور صناعة السفن في البحرين (انظر ملحق فضاءات – صحيفة الوسط – العدد: 2526 – الخميس 6 أغسطس/ آب 2009) لنماذج لصناعة السفن في الكويت يعود تاريخها للألف الخامس قبل الميلاد، ولكن لا نعلم بالتحديد حجمها أو كيف صنعت أو بما صنعت. وفيما يخص صنع السفن في جزر البحرين وشرق الجزيرة العربية فهناك ذكر لسفن دلمون في نقوشات تعود لفترة حكم سارجون الأكادي، أي في الألف الثالث قبل الميلاد في حدود 2200 ق. م. من تلك النقوش:

أن سفن دلمون جلبت إلى (اور نانشه) عطوراً

عسى أن تجلب إليك العقيق الجذاب الثمين

وعسى أن تجلب إليك بلاد ماجان النحاس الجبار

أوثقوا سفن دلمون بالأرض

واحملوا سفن ماجان إلى السماء

وسفن دلمون هذه لم يعثر لها إلا على صور محفورة على الأختام الدلمونية التي عثر عليها في البحرين ومناطق مختلفة من الخليج العربي، أما الأثر الفيزيائي فلم يعثر إلا على مرساة إحدى السفن في موقع قلعة البحرين، وهي عبارة عن صخرة كبيرة منحوتة بشكل أقرب للبيضاوي (أبعادها 52 سم × 37 سم) وبها ثقب مربوط به حبل، ويعود تاريخها للفترة 2000 ق. م. - 1800 ق. م.

ويشير المؤرخ حسين محمد حسين إلى أن شعب البحرين اشتهر منذ القدم بصناعة السفن كما رأينا، وقد استمر أبناء دلمون وأبناء أوال في صناعة السفن وتميزوا بصناعتها، وقد أدى هجرة العديد من شعب البحرين لسواحل الخليج لانتشار تقنيتهم في صناعة السفن لتلك المناطق. ففي الكويت أسس شعب البحرين «فريج البحارنة» الذي أصبح مدرسة يخرج أساتذة بنائي السفن حتى أن يعقوب الحجي في كتابه عن صناعة السفن في الكويت يشير إلى أن مفردة «البحارنة» أصبحت مفردة بديلة تعني صانعي السفن. كذلك على سواحل الإمارات العربية المتحدة وبالتحديد سواحل دبي تأسس أيضاً «فريج البحارنة» وبدأ مع تأسيسه تأسيس صناعة السفن. ذكر محمد التيتون في كتابه عن تاريخ صناعة السفن في البحرين أسماء لأساتذة بناء السفن هاجروا من البحرين وكذلك فعل الحجي في كتابه.


أنواع السفن بحسب الاستخدام

وللسفن الخشبية الخليجية أنواع، فمنا ما يستخدم في النقل البحرين والتجاري والسفر وهي: البوم السفار، البغلة، الغنجة والدنقي، ومنها سفن الغوص بحثاً عن اللؤلؤ وهذه أعدادها أكبر من سفن السفر من حيث الكم ومنها البتيل، البوم، الشوعي، السنبوك، الجلبوت والبقارة، أما سفن النقل التجاري للمسافات القصيرة بين دول الخليج العربي لا تتعدى إمارة رأس الخيمة، فتعرف بالقطاعة، ولكن هناك سفن خاصة لنقل الصخور المستخدمة في البناء وتسمى «تشاشيل» وهي قريبة الشبه من سفينة البوم لكن لا سطحة لها، وعادة ما تستخدم الشواعي (جمع شوعي) لصيد الأسماك وللغوص في المناطق البحرية القريبة من السواحل.

أما «الماشوة» و «البدن»، فهي أسماء لمحامل ليست كثيرة الاستخدام وهي ذات حجم متقارب أصغر من حجم البقارة وتستخدم في الصيد ونقل الحاجيات والبضائع الخفيفة، واستخدمها أهل الخليج العربي في التنقل بين إمارة الفجيرة وسلطنة عمان، وتعرف لدى أهل العراق باسم «البلم».

لحظات تأمل جميلة وأنت تشاهد بناء سفينة تراثية تأخذك إلى الماضي التليد... هي هوية بحرينية خليجية عربية أصيلة، مهما تغيرت الأيدي التي تبني... لكنها تبقى من المشاهد التي لا يمل منها الإنسان.

العدد 3507 - الجمعة 13 أبريل 2012م الموافق 22 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 4:13 ص

      بن سوار

      سنبوك موشور في حالة علي بن سوار
      صدره نمونة حيابه في الخشب ما صار

    • زائر 2 | 4:11 ص

      مخزون ثقافي

      المخزون الثقافي والاصالة المرتبطة بالارض البحرينية المباركة تجده يا اخ سعيد ويجدها الكثيرون متمثلة في جزء منها في الصورة التي نشرتها الوسط في عددها اليوم السبت على صفحتها الاخيرة وتمثل رجل بحريني اصيل ومكافح من اجل كسب لقمة ليطعم بها نفسه واولاده بالرزق الحلال ، نحن نشكر جريدة الوسط على نشر هذه الصور المعبرة عن تراث واصالة الانسان البحريني

اقرأ ايضاً