العدد 2482 - الثلثاء 23 يونيو 2009م الموافق 29 جمادى الآخرة 1430هـ

الدولة والجماعة والمديونية المزدوجة

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

تمثل الذاكرة الجماعية جزءا محوريا من هوية كل جماعة، وعادة ما تتماهى الجماعة مع ذاكرتها بحيث يصبح بقاؤها مرهونا ببقاء هذه الذاكرة ودوام استحضارها. وفي هذه الحالة يصبح التذكر هو عنوان الوفاء للجماعة، وشرط البقاء داخلها والتمتع بشعور الانتماء إليها. وفي المقابل، تتعامل الجماعة مع النسيان والتذكر الحرّ بعيدا عن سلطتها، وبعيدا عن تحبيكاتها المصادق عليها جماعيا، كما لو كانا خيانة كبرى، وعنوان المروق والخروج عن/ على الجماعة، وسببا كافيا للطرد من عضويتها و»شرف» الانتماء إليها.

يقوم النسيان والتذكّر الحرّ بتمهيد الطريق للانعتاق من الجماعة والبقاء خارجها، إلا أن الأهم من هذا، أنهما يساعدان على مقاومة ضرب عنيد من ضروب الاختزال. ويتمثل هذا النوع من الاختزال في اختزال الإنسان في انتمائه الجماعي وهويته الثقافية التي يجري تصويرها على أنها قدر المرء الحتمي ومصيره الذي لا مهرب له منه.

يسمح النسيان للمرء بأن يبقى «خارج الجماعة». و»خارج الجماعة» ليس موقعا مريحا بالضرورة، بل هو عزلة وغربة وهامشية وحالة من الحرمان والقلق، وهي لا تكون إلا من نصيب «الخوارج» الذين يكتب عليهم أن يعيشوا حياة غير مطمئنة ولا مؤمَّنة، وهي أشبه بحياة المنفى، إلا أنه منفى داخلي، فأنت تعيش بالقرب من الجماعة، إلا أنك لست جزءا منها، وتمتنع، بإرادتك، عن التمتع بفضائل الانتماء إليها، وتحرم من كل الامتيازات التي يتحصّل عليها أعضاؤها المنتمون.

يقع المنفى على النقيض من وطن الإقامة الذي يمنح الشعور بالألفة «البيتوتية» مع الجماعة القومية أو الدينية أو القبلية أو غيرها. إلا أن المنفى الذي نتحدث عنه هنا ليس غربة مكانية عن وطن الإقامة، بل هو غربة تعاش داخل الوطن ولكنها «خارج الجماعة». وقد اعتاد إدوارد سعيد على الربط بين المثقف والمنفيّ. فالمثقف، بحسب إدوارد سعيد، يعيش حالة من النفي الدائم، فهو دائما شخص مغترب وهامشي، وفي نزاع دائم مع مجتمعه ومحيطه، ولذا فهو محروم من كل «الامتيازات، والسلطة، ومظاهر الحفاوة والتكريم»، كما أنه يعيش حالة من «اللاتكيّف» الدائم مع مجتمعه، والشعور أنه «خارج العالم المألوف المهذار» الذي يقطنه أفراد «ينتمون كليا إلى المجتمع كما هو، ويزدهرون فيه دون أي شعور غامر بالتنافر أو الانشقاق». إلا أن المنفى والبقاء «خارج الجماعة»، كما يعرف إدوارد سعيد جيدا، ليس موقعا سلبيا بصورة كلية، فللمنفى فضائل ومنافع ومسرّات لا تقدّر بثمن، وإذا صحّ «القول إن المنفى هو الوضع الذي يميّز المثقف كإنسان يقف كرمز هامشي بعيدا عن متع الامتيازات، والقوة، والشعور بالبيتوتية (إذا جاز التعبير)، فإن من الأهمية بمكان التشديد على أن ذلك الوضع نفسه يحمل في طياته مكافآت معينة، لا بل امتيازات»، ومن بينها «بهجة الإصابة بالدهشة، ومتعة عدم التسليم جدلا بأي شيء»، والميل «إلى تفحّص الأوضاع وكأنها ممكنة الحدوث لا محتومة». أما أعظم امتياز يوفّره المنفى فهو التحرر من ضغوط الجماعة والتزاماتها وذلّ المديونية إليها. صحيح أن الانتماء إلى الجماعة يمنح صاحبه شعورا بالأمان والطمأنينة والاستقرار، إلا أن الصحيح كذلك أن هذا الشعور ليس مجانيا، بل هو شعور مدفوع الثمن، والجماعات بارعة في تحصيل حقوقها من أفرادها بطرائق شتّى.

علاقات الجماعة مع أفرادها، كما يقول نيتشه، «مثل علاقة الدائن بمدينيه، يعيش المرء في جماعة ما ويتمتع بمزاياها (...)، يسكن فيها، ويكون محميا وموفور الجانب، في أمان وثقة، في أمن من بعض الأضرار والأعمال العدوانية التي يتعرّض لها الإنسان الذي يعيش خارج الجماعة، والذي لا يعرف الراحة». إلا أن هذه المزايا ليست مجانية، بل هي مزايا مدفوعة الثمن، وعادة ما يدفع هذا الثمن من خلال التعامل مع الجماعة كما لو كانت «ولية النعمة» التي تتطلب الاسترضاء والخضوع ودوام السهر على خدمة مصالحها وقيمها. وفي حال عجز الفرد عن دفع هذا الثمن، فإن الجماعة ستعمل على استرداد حقوقها «مثل الدائن الذي خاب أمله». وعلى هذا، فإن من يعيش «خارج الجماعة» يتحرر من ذلّ المديونية؛ لأنه، كما المنفي، لا يتمتع بمزايا العيش «داخل الجماعة»، ولهذا فإنه لا يدين للجماعة بأثر الراحة والاستقرار والأمن الذي لا يتمتع به أصلا.

يتحدث نيتشه عن تلك المديونية بمقياس العصور القديمة، والسبب أن اعتماد الفرد على الجماعة كان كبيرا في تلك العصور. وقد تغيّر الوضع في العصر الحديث بنشوء الدولة بما هي كيان انضباطي عمومي غايته استئصال العنف وحماية الأفراد وتأمين السلم العام في المجتمع. لم يعد الفرد بحاجة ماسّة إلى الجماعة من أجل أن يتمتع بمزاياها الضرورية التي اضطلعت الدولة بمعظمها في العصر الحديث. لقد حلّت الدولة محل الجماعة، وتغيّرت، على إثر هذا، علاقة الفرد بجماعته، إلا أن بنية المديونية لم تتغيّر، فالفرد الذي كان مدينا لجماعته في العصور القديمة، أصبح، الآن، مدينا للدولة. صحيح أن المديونية أصبحت أكثر وضوحا وتحديدا، وأن حقوق الطرفين وواجباتهما أصبحت معروفة ومنصوصا عليها في المدوَّنات الدستورية والحقوقية، إلا أن بنية المديونية بقيت كما هي، وأصبحت الدولة، تماما كما كانت الجماعة، «ولية النعمة» التي تتطلب الاسترضاء والخضوع باستمرار.

راهن كثيرون على أن انتصار الدولة سيلحق الهزيمة المنكرة بالجماعات والطوائف والقبائل، وأن التقدم في التحديث السياسي والاجتماعي سيحوّل هذه الجماعات إلى مجرد ذكرى من زمن سحيق، إلا أن هذا لم يحدث بالصورة التي كانت يراهن عليها. صحيح أن الدولة نشأت، وأنها تجذّرت في الواقع بعلاتها وعيوبها، إلا أن الصحيح كذلك أن الجماعات مازالت باقية ومحتفظة بجزء لا يستان به من وظائفها القديمة. وبدل أن تنقرض الجماعات وبنية المديونية القديمة، صار على الفرد أن يخضع لمديونية مزدوجة تجاه الجماعة والدولة معا، وصار كل فرد مطالبا بتقديم الولاء لجماعته ودولته معا. وخلقت هذه المديونية المزدوجة معضلة جديدة أمام الفرد، وخاصة حين تتعارض مصالح الجماعة مع مصالح الدولة.

لم يقضِ نشوء الدولة على الجماعات قضاء مبرما، بل مازالت الجماعات تتعامل، في كثير من الأحيان، مع أفرادها بمنطق المديونية القديمة، بل هي دائمة التذكير بهذه المديونية. ومع ذلك، فإن هذا لا يعني أن شيئا لم يتغيّر؛ فالجماعات باقية، إلا أنها لم تعد تتمتع بقوتها القديمة وسلطتها المطلقة على أفرادها كما كان الحال في العصور السابقة.

وينطوي الرهان على انتصار الدولة على مسلمة كثيرة التداول، وتقول إن بين قوة الدولة وقوة الجماعات علاقة تناسب عكسي، فكلما قويت الدولة ضعفت الجماعات، والعكس صحيح، إلا أن الحاصل أن الجماعات حين تضعف فإنها لا تنقرض، بل تزداد قسوة تجاه أي تقصير من قبل أفرادها. وقد كان نيتشه على حق حينما ربط قسوة الجماعة بضعفها، وتهاونها وتسامحها بقوتها، فـ»كلما ازدادت قوة الجماعة كلما نقص اهتمامها بتقصير أفرادها، ذلك أنهم لا يبدون لها خطرين على وجودها ولا مخربّين مثلما كانوا من قبل (...) وبمجرد ما يظهر فيها ضعف أو خطر محدق تظهر كذلك أشكال العقاب الصارمة. لقد كان «الدائن» دائما يتأنسن بقدر ما يغتني». وبما أن الدولة قد أضعفت من قوة الجماعات بشكل أو بآخر، فلن يكون من المستغرب أن تكشف هذه الجماعات عن وجهها المكفهرّ، بحيث تتعامل بقسوة تجاه أي تقصير من قبل أفرادها، كما تتعامل مع أي نقد قد يطالها على أنه خطر يهدد البقية الباقية من وجودها.

والحق أن الجماعات المهددة، أو التي تشعر بالتهديد، هي التي تجعل مسئولية الفرد، ابن الجماعة، على المحك، فالفرد، حتى لو اختار العيش «خارج الجماعة»، مطالب، أخلاقيا، بالتضامن مع جماعته والدفاع عنها مهما كانت تبعات ذلك. وفي هذه الحالة، لا تكون الرغبة في العيش «خارج الجماعة» إلا تعبيرا عن موقف ضعيف وجبان وانتهازي. والسبب أن الجماعات المهددة لا تعد أفرادها بمزايا، لأنه لم يعد ثمة مزايا للعيش ضمن هذا النوع من الجماعات. لم يكن لدى اليهود، على سبيل المثال، إبان الحكم النازي في ألمانيا مزايا، كما لم يكن لدى أكراد تركيا والعراق وإيران وسورية في العصر الحديث مزايا، ولهذا لم يكن إشهار الانتماء إلى هذه الجماعات مربحا، بل على الضد من ذلك، بحيث كان يكفي أن يكشف المرء عن يهوديته حتى يصبّ عليها العذاب صبّا، وكان يكفي أن يكشف المرء عن كرديته حتى يكون الظلم والتمييز بمثابة الظل الذي لا يفارقه في دول متطرفة في قوميتها التركية أو العربية أو الفارسية. والحال هو هو مع الفلسطينيين منذ النكبة، والبوسنيين في التسعينيات، وشيعة العراق قبل الإطاحة بحكم حزب البعث في العام 2003، وهذا هو حال كل الجماعات المهددة الأخرى. وفي مثل هذه الحالات، فإن إعلان الفرد أنه يعيش «خارج الجماعة» ليس من الشجاعة والجرأة في شيء، بل هو سلوك جبان وانتهازي غايته الخلاص من تبعات الانتماء القاسية، والتبرؤ من المسئولية الأخلاقية، والتمتع، بدل ذلك، بمزايا العيش «خارج الجماعة» وامتيازاته. وفي هذه الحالة تنقلب المواقع وميزاتها، ويصبح «خارج الجماعة» موقعا مريحا ومطمئنا وآمنا، في حين يتحول «داخل الجماعة» إلى موقع قلق ومزعج ومستهدف بالتهديد الدائم.

إلا أن هذا لا يعني أن على الفرد أن يذوب في جماعته، كما لا ينبغي أن يستغلّ ذلك لصالح تغييب وجود الفرد وطمس حسّه النقدي بحجة الحفاظ على هوية الجماعة التي تتعرّض للتهديد. نعم، قد تخلق هذه الوضعية معضلة أخلاقية أمام الفرد، ولكن لا ينبغي أن ننسى أن الجماعات قد تعمد إلى «إبقاء الذعر الجماعي مستعرا» من أجل تعزيز هويتها و»كأنها محاصرة ومعرضة للخطر»، الأمر الذي يتطلب طمس حرية الأفراد، وتغييب الحسّ النقدي لديهم، وتأجيل الأسئلة وكل ما يثير الشقاق والفرقة، والتأكيد، بدل ذلك، على تضامن الجميع وصيانة الإجماع العام. صحيح أن على المثقف، كما يقول إدوارد سعيد، أن يقف دائما إلى جنب «الأضعف، والأسوء تمثيلا، والمنسيين أو المتجاهلين» سواء كانوا من جماعته أو من جماعات أخرى، إلا أن الصحيح كذلك «أن التضامن لا يعلو أبدا على النقد». والسبب أن التضامن مع الجماعة من دون حسّ نقدي قد ينتهي إلى تعزيز قيمة الجماعة - وهي ليست أكثر من كيان متخيّل - على حساب قيمة أفرادها الحقيقيين وهم بشر من لحم ودم، وقد تدوم هذه الوضعية حتى بعد انتهاء «فترات الطوارئ القصوى». أضف إلى ذلك أن هذا النوع من التضامن مع الجماعة دون نقد ومساءلة قد يكون بمثابة وصفة جاهزة لتحويل هوية الجماعة إلى «هوية قاتلة» وقتالية وعلى أهبة الاستعداد للانخراط في الصراع الجماعي، وخاصة في السياقات المضطربة سياسيا واجتماعيا. وهنا يأتي دور «المثقف النقدي» الذي لا يتوانى عن الوقوف إلى جنب المهددين والضعفاء والمستهدفين من قبل السلطة، ولا يكفّ، في الوقت ذاته، عن مواجهة طغيان الجماعة وصعود دكتاتوريتها المحتملة، والوقوف ضد محاولات الانغلاق الثقافي واختزال الإنسان في هويته الثقافية الحتمية.

هذه بعض القضايا التي أتناولها بصورة مفصلة في كتابي الجديد الذي يصدر خلال الأسابيع القليلة المقبلة تحت عنوان «خارج الجماعة». وبهذه المقالة أختتم هذه السلسلة من المقالات على أمل العودة للكتابة الصحافية في أقرب فرصة ممكنة.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 2482 - الثلثاء 23 يونيو 2009م الموافق 29 جمادى الآخرة 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً