يستغرب البعضُ الكمَّ الهائل من الكتب المتعلّقة بالثورة العربية الراهنة، والتي صدرت في الكثير من الدول العربيّة، وخاصّة مصر وتونس خلال سنة 2011 وحتى الآن، حيث تمخّضت عن الأحداث التي عاشتها دول الربيع العربي حالة من الإسهال الكتابيّ لم تقتصر على الأدباء والمحللين و»المفكرين» في الدول مسرح الأحداث فحسب، وإنما كان لغيرهم أيضا نصيب في هذه المساهمة الكتابية سواء من دول عربية أخرى أو من الدول الغربية، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تستقصى في مثل هذا المقام. ولكن قد يشدك أحيانا أن نفس الكاتب يُصدِر عملين اثنين في نفس الوقت وعلى سبيل المثال الكاتب المغربي الشهير الطاهر بن جلون الذي أصدر كتابا بعنوان «الشرارة» ذا صبغة تحليلية تشرح دوافع الثورات العربية وخلفيّاتها وكتابا ثانيا بعنوان «بالنار» وهو عمل سردي اتخذ من الشهيد التونسي محمد البوعزيزي بطلا له.
وقس على ذلك مئات المؤلفين وآلاف الكتب والمقالات بكل اللغات التي حبِّرت لفهم اللحظة التاريخية. ولئن كانت المقالات التحليليّة والصحافيّة طبيعيّة بحكم معالجتها للراهن وحاجة القرّاء لها، فإنّ تأليف الكتب والقصص وإصدار الدواوين الشعرية وحتى غيرها من الأعمال الفنية كالمسرح والرسم و... والمتعلّقة بالثورة العربيّة الراهنة مسألة يختلف فيها المحلِّلون.
فهناك من يعتبر في صدورها أثناء الثورات أو حتى بُعَيْدها نوعا من التسرّع لأن الصورة لم تتضح بعد، وشكّكوا في نوايا الكُتّاب والناشرين بل واعتبروا أن مثل هذه الكتابات لا تخلو من غايات ربحية لاكتساح السوق وتلبية حاجات القراء كما حصل خاصة بعد سقوط نظام صدام حسين في العراق حيث تكاثرت الكتب عن مرحلة صدام وشخصيته بشكل ربما يحسده عليه غيره من الزعامات الحية والميتة!
نعم هذه الكتابات الفورية في نظر الكثيرين نوع من التسرّع إن لم تكن سابقة لأوانها لأن الأحداث وخاصة في دول الربيع العربي لاتزال تتشكّل والمتغيّرات تتقلّب والمصالح تتضارب وليس أدلّ على ذلك من ازدواجية الموقف الغربي من الثورتين الليبية والسورية. بل إن البعض يذهب إلى أنّ تأليف كتب ونشرها عن هذه المرحلة التاريخية وهي لاتزال في زخمها نوع من الركوب على الأحداث تحرّكها قوانين سوق الكتابة والنشر.
ولعلّهم يدعمون موقفهم هذا - عُسْر الكتابة أثناء الثورات - بموقف القاصّ الفرنسي بيار ميشون الذي ظلّ يحاول تأليف رواية عن الثورة الفرنسية طيلة عشر سنوات دون جدوى وذلك في بحث دؤوب منه عن إبداع أثر فنيّ يرقى إلى مستوى الحدث. ممّا يطرح سؤالا نقديا: هل ما كتبه المؤلفون العرب وخاصة في باب الرواية والشعر يرقى فنيّا إلى مستوى ما أبدعته الشعوب فعليّا؟
سؤال يجيب عنه فريق آخر من المحللين من زاوية أخرى ممّن يشرّع للكتابة زمن الثورات، بل ممّن يعتبر حدث الكتابة نفسه ثورة ثقافيّة داخل الثورة السياسية والاجتماعية حتى وإن كانت تعوز هذه الكتابات والأدبية منها بالخصوص تلك الروح الفنية والجمالية الأدبية التي طالما اتكأ عليها جيل من المبدعين مستعيضين بها - ولو إلى حين - عن جمالية الفكرة في ظل محاصرة الإبداع والتضييق عليه في العقود السابقة.
نعم يرى هذا الفريق أنّ الجماليّة اليوم تختلف: إنها جماليّة «الفوريّ والعاجل» على حدّ تعبير الشاعر والمحلل التونسي آدم فتحي الذي دحض فكرة عدم ارتقاء الأعمال الأدبية والآثار الفنية التي تكتب زمن الثورة إلى مستوى الحدث؛ ذلك أنّه رأى فيها كلمة نقد أُريدَ بها بخس لهذه الثورات، بل اعتبر هذه الآثار ناجحة وإن طغى عليها طابع المباشرة والتوثيق وربما أسلوب التحريض لأن التقليل من شأن هذه الكتابات والانتقاص من قيمتها الفنية والشعرية ضرب من «سرقة الأحلام» أحلام مبدعيها بل ذهب بعيدا واعتبر هذا النقد هدّاما إن كانت الغاية منه جعل هذه الأحداث التاريخية «بكماء عمياء» دون نصوص توثّقها.
إن هذه النصوص حين نتناولها من زاوية النشأة ويُمعِن النقّاد النظر فيها من مناظير نقد المتقبل المختص، نقف فيها على جوانب من الإبداع يمكن أن نصطلح عليها بـ «جماليّات الفوري والعاجل» تتطلب من النقاد المختصين البحث فيها عن مفاتيح هذا الإبداع وتحديد معاييره التي لاشك تختلف عن معايير تقويم الأعمال الأدبية التي تكتب على مهل وبعد تروٍّ ومراجعة. ولكن أيضا لا يجب أن يسقط النقّاد في التعاطف مع بعض هذه الأعمال الأدبية لمجرّد كونها واكبت اللحظة التاريخيّة وكتبت في خضمّ الثورة وعبّرت عن آلام الشعوب وآمالها.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 3503 - الإثنين 09 أبريل 2012م الموافق 18 جمادى الأولى 1433هـ
جمالية الفوري والعاجل
إذا اتفقنا على هذا الاصطلاح فالجمالية لا تغدو أن تكون إلا في الحماسة وإلاب مشاعر الجماهير
الكتابة ولادة عسيرة
ليس سهلا حقا ميلاد كتاب وأستغرب ممن يتسرع في كتابة الكتب سواء بمناسبة الثورات أو غيرها
فلا بد من التريث
يعني لا نكتب
والله غريب إذا كتبنا قلتم متسرعين وإذا لم نكتب قلتم غير مواكبين
شكرا مقال جميل
بارك الله فيك
تنتخب مواضيع جميلة
لا تستغرب هو زمن الخصب الثوري
يستغرب البعضُ الكمَّ الهائل من الكتب المتعلّقة بالثورة العربية الراهنة، والتي صدرت في الكثير من الدول العربيّة، وخاصّة مصر وتونس خلال سنة 2011 وحتى الآن، حيث تمخّضت عن الأحداث التي عاشتها دول الربيع العربي حالة من الإسهال الكتابيّ لم تقتصر على الأدباء والمحللين و»المفكرين» في الدول مسرح الأحداث فحسب، وإنما كان لغيرهم أيضا نصيب في هذه المساهمة الكتابية سواء من دول عربية أخرى أو من الدول الغربية،
فعلا مشروع بحث دسم
«جماليّات الفوري والعاجل» تتطلب من النقاد المختصين البحث فيها عن مفاتيح هذا الإبداع وتحديد معاييره التي لاشك تختلف عن معايير تقويم الأعمال الأدبية التي تكتب على مهل وبعد تروٍّ ومراجعة. ولكن أيضا لا يجب أن يسقط النقّاد في التعاطف مع بعض هذه الأعمال الأدبية لمجرّد كونها واكبت اللحظة التاريخيّة وكتبت في خضمّ الثورة وعبّرت عن آلام الشعوب وآمالها.