أول مقال سياسي كتبته في «الوسط» بداية صدروها كان عن طوني بلير، ومجاراته للرئيس الأميركي السابق جورج بوش في حربه على العراق، بما يذكّر بقصة «دون كيشوت» وخادمه المطيع الأهبل سانشو.
كان ذلك في أكتوبر/ تشرين الأول 2002، ولم يمض على صدور الصحيفة أكثر من شهر، حيث كنا نشهد صعود موجةٍ عاتيةٍ من المد الاستعماري لغزو الشرق، طمعا في الثروات النفطية حيث أكبر مخزون تختزنه أرض الرافدين.
الحرب جرى تسويقها وفق خطةٍ إعلاميةٍ قائمةٍ على التخويف من أسلحة دمار شامل، تبيّن للجميع كذبها. ومازلنا نتذكّر كيف تقدّم وزير الخارجية الأميركي الأسبق بتقديم عرض مفبرك في الأمم المتحدة قبل الغزو، لإقناع الرأي العام الغربي بمشروع الحرب. ومع استمرار الغزو وارتفاع كلفته المادية والبشرية، أخذ دعاته يتساقطون، ومن بينهم بلير.
البريطانيون، الذين يحملون على ظهرهم أوزار تاريخ طويل من الاستعمار في أغلب دول المنطقة الكبيرة والصغيرة، يقفون اليوم لمحاسبة سياسييهم، وفي مقدمتهم بلير. وحسب صحيفة «التايمز» فإنه حاول وقف التحقيق بحرب العراق على الملأ، مع ظهور أدلة تشير إلى أنه كان على علم بأن العراق لم يكن يملك تلك الأسلحة.
ونقلت «التايمز» عن مذكرة الاجتماع بين بلير وبوش بتاريخ 31 يناير/ كانون الثاني 2003، التي كتبها مستشار بلير السياسي، حيث اقترح بوش إطلاق طائرات استطلاع أميركية مطلية بألوان الأمم المتحدة لاستفزاز العراق ودفعه لإطلاق النار، وبالتالي انتهاك القرارات الأممية. كما حدّدا موعد بدء قصف العراق، وناقشا سيناريوهات لتفجير الحرب حتى دون اللجوء إلى قرار أممي ثان يجيز العمل العسكري ضد العراق. فالسياسة الدولية تجري على هذا المستوى من الفجور والكذب وتضليل الرأي العام.
بلير الذي كان شرسا ومخلصا جدا في تأييد بوش، وتمت الإطاحة به داخليا، ردّ له بوش الجميل، فعينه رئيسا لما يسمى بـ «اللجنة الرباعية»، لكي لا يبقى عاطلا عن العمل، بعد كلّ ذلك الجاه السياسي والظهور الإعلامي لسنوات.
اليوم يطالب البريطانيون مساءلته عن جرجرة بلاده للحرب الأميركية على الإرهاب، فيما يحاول هو الإفلات من المصيدة، بمحاولة الضغط على رئيس لجنة التحقيق لإقناعه بأن الظهور العلني في التحقيق من شأنه أن يتحول إلى محاكمة صورية! وهي محاولةٌ فاشلةٌ، لم تقنع أحدا من البريطانيين، الذين يطالبون بمناقشة علنية وشفافة لوضع النقاط على الحروف. ولذلك اعتبر مثوله خلف أبواب مغلقة، «تعتيما كاملا على أفدح خطأ في السياسة الخارجية منذ السويس» كما يقول زعيم حزب الأحرار كليغ.
الحكومة البريطانية لوّحت بإجراء التحقيق سرا، لكن بعد تعرضها لمزيد من الضغوط خلال الأيام الماضية، جعلت خلفه غوردن براون يغيّر موقفه ويقبل بإجراء التحقيق مع بلير علنا على رؤوس الأشهاد. وحتى لو حاول بروان رفض ذلك، فإنه كان سيصطدم بمجلس النواب الذي سيصوّت ضده بالإجماع، دون أن ينقسم طائفيا إلى كاثوليك ضده وبروتستانت معه والحمد لله. وسبق أن رفضت الهيئات المناهضة لحرب العراق وأسر الجنود الـ179 القتلى سرية التحقيق.
التحقيق سيتم وتعلن نتائجه بعد عامٍ من الآن، والمؤكد أن بلير الذي يعتبر من مجرمي الحرب... لن يُحكم عليه بالإعدام ولا بالسجن المؤبد ولا هم يحزنون.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2482 - الثلثاء 23 يونيو 2009م الموافق 29 جمادى الآخرة 1430هـ