أثناء رجوعي بالطائرة من جنيف مؤخراً تصادف أن التقيت شخصاً أعرفه جيداً ولكن نسيت اسمه، فعاتبني باسماً وهو يقول: «أنت أكيد ما تتذكر اسمي لكنني أعرفك جيداً»، وسارع لرفع الحرج عني بتعريف نفسه: العبيد أحمد العبيد، سوداني/ كندي مدير مركز الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الدوحة. وأنعش ذاكرتي بأنه كان من المدعوين للمؤتمر الموازي لمنتدى المستقبل الذي عقد في البحرين في 7 - 8 نوفمبر 2005، وأنه انتخب نائباً لرئيس ورشة الديمقراطية في المؤتمر علي فخرو، وبسبب انشغال الأخير فقد رأس الورشة طوال يومين طويلين. وقد مازحته بالقول إنك تنتحل شخصيتي، فقد كنت أحمل جواز سفر يمني واسم عائلتي فيه العبيد!
حديثي مع الأخ العبيد أعاد لي الذكرى لواحد من أهم المؤتمرات الأهلية التي شهدتها البحرين، وهو المؤتمر الموازي لمنتدى المستقبل خلال يومين حافلين بالعمل والأمل، وتشرّفت برئاسة لجنته التحضيرية وتسيير أعماله. هذا المؤتمر عكس حينها صورة شعب البحرين الزاهية للعالم أجمع، ولايزال بنظر الكثيرين أفضل مؤتمر موازٍ لمنتدى المستقبل منذ انطلاقته في الرباط في 2004 حتى الكويت في 2011.
ائتلاف شعب البحرين
عندما تقرر عقد الدورة الثانية لمنتدى المستقبل في البحريني في 11 و12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005 في فندق ريتزكارلتون بالبحرين، برزت فكرة عقد مؤتمرٍ موازٍ لأول مرة قبيل شهرين فقط، بمبادرة من «الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان»، التي كلفتي بقيادة التحضير للمؤتمر. ولم تكن أي من منظمات المجتمع المدني باستثناء جمعيتي المهندسين والأطباء لها خبرة في تنظيم مؤتمرات دولية بهذا الحجم.
كانت البحرين حينها لاتزال تعيش مخاض المرحلة الجديدة. ورغم الإحباطات فقد كانت الآمال كبيرة بأن يجرى تصحيح مسار المشروع الإصلاحي. ورغم الخصومات التي رافقت قيام الجمعيات السياسية والجمعيات الأهلية الجديدة، فقد هدأت هذه الخصومات، وتيقن المناضلون في الجمعيات الأهلية بأنهم يجب أن يعملوا معاً من أجل تثبيت حق الجمعيات الأهلية في العمل المستقل، ورفع يد الوصاية الرسمية عن عملها. كان مشروع قانون منظمات المجتمع المدني، في طور صياغته بشكل منفرد من قبل وزارة التنمية الاجتماعية، وكان يُنظر إلى منتدى المستقبل، كفرصة نادرة لطرح وجهة نظر المجتمع المدني في الدول العربية وغرب آسيا، أمام المنتدى، وهو ما لم يتم في الرباط. كما أنها فرصة لمنظمات المجتمع المدني في البحرين لإبراز وجه العمل الأهلي، والاحتكاك بالخبرات العربية والأجنبية، وفي الوقت ذاته تأكيد مواقف تجاه أبرز القضايا المطروحة على ساحة البحرين وأهمها عملية التحول الديمقراطي والإصلاح والحريات وغيرها.
في جوٍ مفعمٍ بالأمل رغم المعاناة، ورغم التباينات السياسية والفكرية والخلفيات التاريخية فقد اجتمعت 15 جمعية واتحاد عمال البحرين، لتشكّل اللجنة التحضيرية للمؤتمر الموازي، وتطوّع عشرات الشباب والشابات دون مقابل للتحضير للمؤتمر، وقاموا بعمل جبار، أخذاً بالاعتبار أنه لم تكن هناك قاعدة بيانات أو معلومات لمئات من المنظمات الأهلية في البلدان الـ 20 من الدول العربية وآسيا، إضافة إلى 8 دول كبرى. ولم يكن لدى اللجنة موازنة لهذا الحدث الكبير، ولذلك كانت المخاوف كبيرة بضياع هذا الجهد.
موقف الدولة
كانت الدولة حتى حينها في طور التعايش مع المختلف معها سياسياً ومجتمعياً. وزارة الخارجية المكلفة حينها بالملف واستضافة منتدى المستقبل، لم تكن واثقة من قدرتنا على التنظيم، كما كانت متخوفة مما سيطرح في المؤتمر. وهنا أسجل التقدير للشيخ عبدالعزيز بن مبارك الخليفة لموقفه الشجاع والمنصف، فقد أيّد انعقاد المؤتمر وقدّمت الوزارة الدعم المادي والمعنوي للجنة التحضيرية دون أية شروط، بل ولم نطلعهم على أي جهة أو اسم من المدعوين. وجرى وضع قائمة من 360 منظمة أهلية في البلدان الـ 28 المعنية، وجرت مخاطبتها للمشاركة في المؤتمر، وتم إقرار 135 مدعواً للمؤتمر الموازي من أميركا حتى روسيا، ومن تركيا حتى السودان، وكنا حريصين أن يتمثل الشباب والنساء ومختلف الأطياف. وقد شارك في هذا الجهد الكبير متطوّعو اللجنة التحضيرية وشركة غولد مارك لصاحبها الصديق محمد حسن العرادي، التي قامت بعمل رائع أكثر مما هو مطلوب منها.
المؤتمر واحة للديمقراطية
شكل المؤتمر الموازي والذي انعقد يومي 7 و8 نوفمبر 2005 في فندق الخليج والفعاليات المرافقة، واحة للديمقراطية والحرية والتعددية نادرة بالنسبة للبحرين ولمنتدى المستقبل. رئاسة المؤتمر تمت باتفاق رؤساء الوفود وكذلك الجلسة الافتتاحية، وباقي رؤساء الورش ولجنة الصياغة تمت بالانتخاب. كانت المناقشات حرة ومفتوحة دون قيد، وقد تلقيت في غمرة أعمال المؤتمر محادثة هاتفية من قبل مسئول كبير يلومني فيه على ما يجرى طرحه عن أوضاع البحرين ومسئولين كبار، فرددت عليه: لقد قبلت الدولة عقد المؤتمر وحرية المؤتمرين، وهو بذلك فخرٌ للبحرين ورصيدٌ لها. وهكذا كان. وحتى عندما صدر البيان الختامي وبه نقد شديد للبحرين، وتلقيت اعتراضات بعض المسئولين، رددت عليهم بالقول إن المؤتمر سيد نفسه ولن أتحوّل إلى رقيب.
يمكن مراجعة الوثيقة الختامية للمؤتمر لندرك التشخيص الجريء والموضوعي لأوضاعنا المتردية والتي لم تعالجها الأنظمة العربية حتى انفجرت الأزمة في وجوهها في 2011.
من تبقى من أعضاء المؤتمر، هم الذين انتخبوا وفداً من 8 أشخاص من بينهم اثنان من البحرين، ليمثلوهم أمام منتدى المستقبل الرسمي يومي 11 - 12 نوفمبر 2005، وكانت سابقة أصبحت عرفاً في مؤتمرات المنتدى اللاحقة. ومما يذكر أنه حتى المنظمات البحرينية غير المرخصة، قد تمثلت بشخصياتها بكل حرية، على رغم أن عدداً منهم شن حملات مشينة ضد اللجنة التحضيرية ورئيسها قبل المؤتمر وبعده.
المفارقة هنا هو الموقف الإيجابي لوزارات الدولة في تسهيل نشاط منظمات المجتمع المدني المستقلة والناقدة لسياسات الدولة. فإلى جانب دعم وزارة الخارجية، سهّلت وزارة الداخلية إعطاء (فيز) للمدعوين في المطار مباشرةً بموجب كشوف قدمتها اللجنة التحضيرية لضابط الهجرة المناوب في المطار دون تعقيدات. هذا بخلاف ما جرى بعدها بسنوات حيث تتفنّن وزارة وأجهزة الدولة في إعاقة فعاليات منظمات المجتمع المدني المستقلة الوطنية والدولية بل ومنعها تكراراً.
ماذا دهانا؟
مرة أخرى أطرح هذا السؤال على الجمعيات السياسية والأهلية بشكل خاص والذين شاركوا في هذا الجهد الرائع: لماذا تفرّقوا وتصارعوا؟ ولماذا لا يتعاونون في الفعاليات والمشاريع الكبرى؟
أما السؤال الثاني فهو موجهٌ إلى الدولة: ألم يرفع المؤتمر الموازي من رصيد وسمعة المملكة وهو ما يتفاخر به أكثر من مسئول، وخصوصاً في وزارة الخارجية؟ كذلك الأمر بالنسبة لعدد كبير من البرامج والنشاطات العربية والدولية للمجتمع الأهلي التي استضافتها مملكة البحرين، والتي وضعتها على خارطة المجتمع المدني. هل سياسة التضييق ومحاصرة منظمات المجتمع المدني الأهلية، داخلياً وخارجياً، ومحاولة تجفيف منابع تمويلها والتشهير بها، وفبركة المنظمات الموالية وحل الإدارات المنتخبة ديمقراطياً لأنها لا تعجبكم وفرض أوصياء عليها، سيجعلها تستسلم وتخضع؟ النتيجة هي العكس... فقد فقدت الدولة المصداقية وحاز المجتمع المدني المستقل على المصداقية والاعتراف الدولي.
فمتى نعود إلى أنفسنا دولةً ومجتمعاً؟ وندرك أن البحرين لا تنهض إلا بدولتها وبشعبها بكل مكوناته وتنظيماته، ولكن باتجاه بناء مجتمع ودولة ديمقراطية حقة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 3502 - الأحد 08 أبريل 2012م الموافق 17 جمادى الأولى 1433هـ