العدد 3502 - الأحد 08 أبريل 2012م الموافق 17 جمادى الأولى 1433هـ

ما بعد مرحلة تأميم فضاء الناس

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

سأتجاوز التعريف السائد للفضاء باعتباره الفضاء الخارجي؛ أو النطاق الخارج عن نظام الأرض أو الكرة الأرضية. ذلك عالم «مجهول مليء بالكائنات والأجسام الغريبة».

نتحدث هنا. على الأرض. نتحدث عن فضاء الناس الذي هو حق لهم. فضائهم الخاص، وحركتهم في الفضاء العام وتعاطيهم معه. فضاء يتحركون فيه عملاً وحق تعبير وإبداعاً ومساهمة في تراكم المعارف والعلوم. فضاء الناس بحقهم في الاحتجاج والإشارة إلى الخلل وكذلك حقهم في الثناء وحتى التصفيق للحسَن والجميل من الإنجاز.

نتحدث عن فضاء يكتشفه المخلوق ويتعرف عليه ويشم رائحته ويتعلق به تماماً كتعلق حياته بالحبل السري بعد خروجه من الرحم الأولى، ويظل ملازماً له ومتمسكاً به إلى ما قبل دخوله إلى الرحم الثانية (القبر).

نتحدث عن فضاء لا يمكن أن يُرى ويُلمس بالعاطفي والمستهلك من الخطاب أو الكلام، ولا يمكن أن يتحقق بتناسل اللجان التي دفعتنا دفعاً إلى الكفر بها وبجدواها؛ بل وتوقع كوارث تتمخض عنها.

نتحدث عن الفضاء ضمن حُزَم من الحقوق لا يمكن القفز عليها عبر التلويح بالآلة مرة؛ وعبر التلويح بالرشا مرة أخرى. نتحدث عمّا يعزز ذلك الفضاء وتلك الحقوق في الوقت نفسه: الواجبات التي لا يمكن لها أن تبرز وتستقيم بانتفاء الأولى وانعدامها.

نتحدث عن فضاء الناس في أحلامهم وآمالهم وتطلعاتهم، لا النقيض من ذلك؛ زنزانات من الكوابيس والقلق والعُقد وانتظار المجهول.

الأمم التي تنتظر المجهول هي أمم مخنوقة ومشوّهة ومحاصرة ومسوّرة ومسيّجة بما يحول دون انطلاقها وانطلاق أحلامها وآمالها.

نتحدث عن قدرة الواحد منا على أن يتجوّل ويمشي بمحاذاة حديقة في وقت متأخر من الليل مثلما هو حقه حين يضطر أن يتجول بمحاذاة مبنى للاستخبارات أو قاعدة عسكرية أو مختبر أمني من دون أن يكون مشروع اشتباه وشك وارتباط بأجندات خارجية وتفصيل التهم بتصنيف خيانات كبرى وصغرى أو متوسطة. ذلك السخف الذي بات يشكل أحد أخطر مصادر التلوث في البيئة التي نحيا فيها!

نتحدث عن حق الناس في فضاء غير ملوث بالشك، واعتبار أي صوت معارض أو غير منسجم مع الأداء والسياسات القائمة والخلل شبه المؤبد، نذير زعزعة وتقسيم للأوطان وتسليمها إلى قوى خارجية، وتلك ثالثة الأثافي في السخف والتسطيح لوعي الناس وخياراتهم ونظرهم وانتخاب فضائهم الذي يرون.

على هذا التساذج والعبث أن يتوقفا ويضعا حداً لاستمرارهما في مواجهة حقوق الناس وإزاء كل توجه نحو تأميم الفضاء ورهنه لمن لا يعنيهم تحوُّل الحياة إلى جحيم أو نموذج للكارثة طالما أنهم بمنأى عن كل ذلك.

نتحدث عن فضاء لا يُعصر فيه الناس بحسب انتماءاتهم وألوانهم ومذاهبهم وأديانهم وحتى أمزجتهم، طالما أنها لا تشكل تهديداً للأمن القومي، وطالما أنها لا تشكل تهديداً لنملة أو ذرة غبار!

حتى الدّين الذي تم اختطافه في بانوراما المزايدات والتفسيرات والنظر؛ وأحياناً التوجيه والاستغلال، هو الآخر بحاجة إلى تخليصه من فضاءات محاصرة ومفروضة عليه، فيما يراد من ذلك كله محاصرة فضاءات الذين يؤمنون به، عبر ذلك الاختطاف والفرْض.

ليس لجوءاً أو انحيازاً إلى المجاز، القول بتثبيت وتكريس تأميم فضاء الناس وبنزعة لا تخلو من مزاجها في جانبه المدمّر. الشواهد من حولنا أبلغ من أي كلام، وأكثر قدرة على التعبير عن نفسها وعن الإصرار على الذهاب وحداناً وزرافات إلى حيث تقيم الكارثة.

حين يهيمن العبث من حولك لا تفهم إلا أمراً واحداً: ثمة من يرى فيك عبئاً عليه، وثمة من يرى فيك عبئاً على الفضاء. فضائه بالدرجة الأولى. تماماً كما هو حال التأميم في القطاعات فإما يأتي لهدْر طالها؛ وإما لانتفاع قلة منها على حساب آلاف وملايين يدفعون الثمن من المهد إلى اللحد.

نتحدث عن فضاء الشجاعة أيضاً في الذهاب إلى التغيير من دون مماطلات ومن دون اللعب على ورقة الوقت والمراهنة على الملل والسأم. فضاء شجاعة المبادرة الواعية لشروط واستحقاقات المراحل، من دون الالتفات إلى نعيب هنا وخوار هناك ونباح هنالك.

نتحدث عن فضاء الإنجاز الذي يمكن له أن يعمر ويخلد في ضمير الزمن؛ فكما أن الناس ذاكرة الزمن؛ تظل تلك الذاكرة هي الفضاء الذي يرسم خريطة توجّه بشرها وقدرتهم على صنع الفارق في الحياة. صنع فضاء لا يُمنح ولا يمكن وهْبه. إنه لصق أرواح البشر وأقرب إليهم من حبل الوريد.

قبل أن يتخيل كل منكم فضاءه الذي يريد ويطمح ويتطلع إليه، هل يحق لي أن أجترح تعريفاً للفضاء الذي نكاد لا نراه؟ هو أن تحيا كما يجب بعيداً عن الشرط وخصوصاً شرط وضعك في مهب المصادرة. كل شرط مشروع قبر. ولا فضاء في القبر!

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 3502 - الأحد 08 أبريل 2012م الموافق 17 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً