«..تصبحين على وطن..»، قال لي أحد طلابي بعد مناقشة طويلة على الهاتف حول الاستبداد والديمقراطية والأمن الإنساني اليومي للفرد في العالم العربي.
«تصبحين على وطن... وأحلام سعيدة».
أغلق سماعة الهاتف وبقي صدى صوته في أذني.
وطن... أرسلت له رسالة تتحدى سخرية شاب في العشرين شاب قلبه تحت وطأة الاستبداد وفقدان الأمل.
أرسلت له: «وطن..وطين، حب مكين، هذي البلاد بلادي المعشوقة. هي شرعتي من بعد شرعة خالقي. هي قبلة القلب. هي مسكني. هوى ودين.»
وطن... وطن. ما معنى الوطن؟
لي صديق يقضي عدة أيام في لندن في أول زيارة له لبلاد الشمال، راسلني وهو يكاد يطير من السعادة، وأرفق بالرسالة صوره في تجواله في لندن، مصحوبة بالكثير من النقمة على القاهرة.
تذكرت يوم حملتني الأقدار إلى لندن في مطلع التسعينيات لزيارة شباب الجيل الثاني من المسلمين، ثم مرة أخرى للدراسة سنة كاملة، وكيف مرت الأيام الأولى وأنا أستكشف عالما مختلفا، ثم بدأ إيقاع الأيام يزداد ثقلا، وبدأ قلبي يحنّ إلى القاهرة، لا الطعام له مذاق، ولا الشاي له طعم، ونوم بلا راحة، وشوق عارم لوجوه القاهرة وضجيجها. فأنفقت كل ما أملك في تذاكر السفر متنقلة بين القاهرة ولندن كل عدة أسابيع حتى صرت حين أستيقظ أحتاج هنيهة كي أتذكر أين أنا. شعرت ساعتها كم هو عميق حب هذا الوطن في قلبي وكم هي قاهرةٌ لي تلك القاهرة.
تجولت بين القارات، وذهبت لأقاصي الشمال وأبعد نقاط الجنوب، وسافرت شرقا وغربا، وصافحت عيني جمالا ما بعده في الدنيا جمال، وأعود كل مرة إلى القاهرة وكأنني أولد ما جديد، أحمد الله حين تحط عجلات الطائرة على أرض المدينة وأنظر من النافذة لأهمس: «وحشتيني يا مصر».
بعد أن تجاوزت الأربعين صرت أقل إقبالا على السفر، تأتي الدعوة لمؤتمر هنا أو حلقة نقاشية أو محاضرة هناك، فأتعلل، وصارت محاضرة ومناقشة مع طلابي أحب لي من مجالسة رؤساء دول وحكومات وأصحاب ثروات ومناصب.
نتجول ونشارك ونتحدث، لا بأس... لكن يظل الوطن هو المحك، إذا لم نستطع تغييره للأفضل فما جدوى النقاش الفارغ حول تغيير العالم في الغرف المكيفة في قصور الغرب الفاخرة وطائراته تقصف قرى أفغانستان وقواته تحتل العراق ونحن نناقش حوار الحضارات!
هل هذه نزعة قومية شوفينية؟
لا... البتة، لأن مفهوم الوطن يسكن في مفاهيم ودوائر من الهوية والانتماء متعددة، لكننا أخطأنا حين تحدثنا عن الدوائر الأوسع وأهدرنا الدائرة المباشرة. كيف يبني الإنسان علاقته بالأمة العربية أو الإسلامية وهو غير قادر على إدارة العلاقة الإنسانية مع جاره، والتحاور بشكل محترم وجاد حول مستقبل وطن يتم تفريغه من سكانه في بعض البلدان -يهاجرون هربا من القمع أو احتكار السلطة والمال، أو استيراد شعب بديل له في بلدان أخرى لا يعجب الحاكم فيه التركيبة السكانية فيقرر أن يغيّرها ويرى أنه يمكنه تغيير الجغرافيا والتاريخ -هكذا.
والوطن ليس اختيارا، يقولون لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا، وكل شعب يقول نفس الشيء عن وطنه، لكنني لا أسأل نفسي هذا السؤال. الأوطان أقدار كالنسب ولون البشرة. لا نختار أقدارنا ولا نختار أوطاننا.
يمكنك بالطبع أن تدير ظهرك للوطن وترحل، تأخذ جنسية وطن آخر وتعيش في مجتمع مختلف، لكن البشر في العادة يعودون لبلدهم الأصلي أكثر شوقا، ويقيمون مساحات تشبه الوطن كي يمكنهم البقاء والاستمرار هناك، فتجد الحي العربي، والحي الصيني، والشارع الهندي والجوار الإيراني في قلب كل المدن الغربية. وطن صغير بديل يشعرنا بدفء وطن نلعنه ونغادره ونبحث عن فرص في أركان الأرض، ثم نبكي في جوف الليل شوقا إليه كما كان يبكي قيس ليلى ونضع الأيقونات الوطنية حولنا لتذكرنا به، ونشمّ فيها رائحته.
وطن... كلمة كبيرة تحتاج أن تقسمها لمعاني فسيفسائية، طعامك المفضل، رائحة قهوة أمك كما كان يقول محمود درويش، حركة جسدك عند المنحنى الذي تعرف تضاريس شارعه بمثل ما تعرف تضاريس نفسك، سور مدرستك الذي تظل تحلم به وأنت تتخطى عقدا بعد آخر من عمرك، ووجه جدتك التي ماتت لكن حفرت أصابعها مساحة في أقصى القلب، فتجد نفسك تردد أمثالها الشعبية التي كنت تسخر منها في بواكير العمر.
تصبحين على وطن... ربما يا عمرو كان يجب أن تقول لي: يصبح الوطن عليكِ...لأن الوطن هو هذه المخيلة التي لا تحيا إلا بنا، ولا توجد إلاّ مع شهيق وزفير أنفسنا فيه.
اخترت أن أعيش في وطني وينشأ أبنائي فيه، في ظل العولمة خشيت عليهم من أن يكونوا بلا وطن، يتجولون في العالم بدون أن تكون لهم نقطة ارتكاز. الوطن ليس فقط علاقة بثقافة ولغة وتاريخ يمكن حمله على قرض مدمج ووضع علمه على شاشة اللابتوب! الوطن رابطة عين بأماكنها المعلومة وعلاقة أنف روائح موسومة، وعلاقة إحساس الأنامل بمساحات مرسومة ومحفورة نعرف موضع الأقدام فيها في قلب الظلام ونرى في حلكته بنور ذكرياتنا عنه.
لو كان الوطن عبئا لتخلينا عنه، ولو كان محض ميراث لبعناه وجددنا المواريث، لكن الوطن ذاتٌ وأبعادٌ ومساحاتٌ مرئية ومعنوية. تفاصيل حياتية وذكريات يومية.
نحن الوطن، مع كل صباح، نتجدد فيتجدد فينا، وقد نموت من أجل أن تحيا قيمة نرى الوطن جديرا بها.
فاستيقظوا كي يصبح الوطن..عليكم بخير.
إقرأ أيضا لـ "هبة رؤوف عزت"العدد 2482 - الثلثاء 23 يونيو 2009م الموافق 29 جمادى الآخرة 1430هـ