إذا قلنا إن الأعوام الأربعة الأخيرة التي مرت منذ تفجر الأزمة العالمية في العام 2008 تميزت بكونها غير عادية إلى حد ما، فإن هذا سيعدّ القول الأكثر إجحافاً خلال القرن؛ فقد طفقت البنوك المركزية في مختلف أنحاء العالم تبحث عميقاً في جعبتها عن حلول لهذه الأزمة، فبدأت أولاً بخفض أسعار الفائدة إلى مستوى الصفر أو إلى مستوى يلامس الصفر فعلياً، ثم لجأت إلى «إجراءات غير تقليدية» تستهدف الحفاظ على معدلات الفائدة منخفضة في النهاية على المدى الطويل وذلك من خلال شراء أغلب السندات التي أصدرتها خزانة حكوماتها ذاتها. وهذه الممارسة الأخيرة كانت توصف منذ عقود مضت بأنها ليست سوى كمخطط «بونزي» للاحتيال المالي، ولكنها تسوّق في عالم اليوم باعتبارها «البديل الوحيد». هذا ما تنبأ به فولتير.
تقليدياً، ظل تدخل البنوك المركزية يقتصر على التحكم في جزء من منحنى العائد، لفترات تبدأ من يوم واحد وربما تمتد لعام كامل. لكن الانخفاض الحاد الذي شهدته الأسهم والسندات بين العامين 2009/2008 وانعدام التوازن المالي الذي نتج عن طرح أكبر حزمة محفزات مالية في التاريخ أوجدا الحاجة إلى تأمين حد أدنى من «الأعمال المنظمة»، من خلال طرح سيولة مناسبة بمعدلات فائدة منخفضة. وعقب تلك الخطوة انطلقت حملة دعاية من جانب مسئولي البنوك المركزية وصناع السياسات مفادها: «صدقونا، كل شيء تحت السيطرة». من المؤكد أن هذا هو ما فعلتموه! فمنذ ذلك الحين، ونحن نتنقل من مشكلة مالية إلى أخرى، وها نحن الآن قد وقعنا في شرك دين جعل الحكومات والبنوك دون رأسمال تقريباً، ودون أن تتاح لها إمكانية الحصول على تسهيلات ائتمانية وقروض إضافية إلا إذا تكرّم البنك المركزي ووافق على ذلك. والآن تلتهم الحكومات والبنوك التجارية في العالم الجزء الأكبر من «كعكة الائتمان» المتاحة، حتى أن القطاع الخاص أصبح لا يجد إلا الفتات. وبذلك، أصبح القطاع الخاص، الذي كان تقليدياً الطرف الأكثر تحملاً للمخاطر والأعلى ربحية في الاقتصاد، محروماً من مصدر حياته، وهو الائتمان. لقد تغلب الجانب الكلي من الاقتصاد على الجانب الجزئي منه، وهذا خطأ فادح ورهيب. وبينما يحتاج أصحاب المبادرات والمشاريع من الأفراد والشركات أقصى قدر من المرونة وتوفير رأس المال لهم وتمكينهم من التعرض للمخاطر، تم قطع هذه الموارد عنهم، وزادت الضرائب المفروضة عليهم، وكذلك الأنظمة المقيدة لنشاطاتهم.
وفي هذا العام 2012، شهدنا حتى الآن تطبيعاً تدريجياً لمعدلات الفائدة بعد إخراجها من إسار الانخفاض المفرط. والخطوة التي اتخذت هذا الشهر برفع أسعار الفائدة مجدداً لاقت ترحيباً كبيراً مقارنة بالماضي القريب، وقادت إلى الحديث عن تغيير أسس النمو وعن احتمال تحول الاقتصاد إلى الجانب الإيجابي (خاصة الاقتصاد الأميركي). لقد كنا إيجابيين في حديثنا عن الولايات المتحدة إبان الربع الأخير من العام 2011 حين رأينا أن التوقعات المجمع عليها بشأن النمو المستقبلي المتوقع كانت ضعيفة جداً (هل تذكرون قضية «الهبوط المزدوج»؟) والآن، مع نهاية الربع الأول من العام 2012، نجد، في رأينا، أن السوق تسرّعت في توقعها بأن تثمر خطوة «تعزيز الاستقرار» الأخيرة عن نمو طويل الأمد. فالوقت لايزال مبكراً لذلك، وها هي مؤشراتنا الاستشرافية تكشف عن دلائل على حدوث تباطؤ محتمل في الاقتصاد، وعليه، نعتقد أن الولايات المتحدة سيظل بإمكانها تجاوز معدلات أداء البلدان الأخرى خلال العام 2012، لكن السبب الوحيد لذلك هو أن كل الاقتصادات الأخرى ستكون أكثر ضعفاً، وليس لأن اقتصاد الولايات المتحدة سيتحسن فعلياً.
ويتبقى معنا لغز الارتفاع الحاد الأخير في أسعار الفائدة: فهل دارت عجلة الفائدة دورتها ووصلت إلى القعر لتعاود الصعود بسرعة؟ هل هذا هو آخر «معدل طبيعي جديد»، أم هو مجرد جرعة من الارتداد المخادع؟ إن الحكومات والبنوك الضعيفة والشركات المثقلة بالديون تحتاج إلى معدلات فائدة منخفضة جداً لتواصل حمل وإدارة أعباء ديونها الهائلة، لذا فإن هذا السؤال عن معدلات الفائدة مهم جداً، وخاصة أن المسار المستقبلي لهذه المعدلات سيكون له تأثير بالغ على النمو المستقبلي وعلى مناخ الاستثمار.
ستين ياكوبسن
كبير الخبراء الاقتصاديين لدى ساكسو بنك
العدد 3501 - السبت 07 أبريل 2012م الموافق 16 جمادى الأولى 1433هـ