العدد 3500 - الجمعة 06 أبريل 2012م الموافق 15 جمادى الأولى 1433هـ

حكاية المنصور مع الصُّرصور

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

يُحكَى أن أحد الهَيَّابِيْن من أهل العراق، في عهد أبي جعفر المنصور (712 - 775م) ثاني خلفاء بني العباس، قد أصابته لسْعَة من صُرصُورٍ على أديمِ خَدِّه الأيمن (الخد ما جاوز مؤخر العين إِلى منتهى الشدق)، فقام مفزوعًا من فراشه، وهو يخمِشُ بيده صَكًا على موضع الجرح. وكلما زاده الوخز ألماً، حَمْلَقَ في أنامل يديه، وحاجِبيْه مزجُوجَيْن، وفيهٍ مفغور، حتى ظفر بالدُّوَيِّبة التي آدته، فطفِق يهرسها بيده، فلم يبارحها حتى ساواها بالأرض.

ولأنه رجلٌ هَيوبٌ يخشى التقدُّم على كلّ شيء، فقد كان لقتله تلك الدُّوَيِّبة (أو الصُّرصور) شيئًا عظيمًا لديه، فكان يُفشِي فعلته عند كل مجلس تبطلاً، فقال له رجل عُرِف عنه المزاح والدعابة: أظنك يا هذا ما قتلتَ صُرصُورًا، بل قتلت أكثر الناس مهابة ومخافة في دار الخلافة، أبا جعفر المنصور، فأخذ الجمع يُقهقهون، لكن تلك المزحَة، ما لبِثت أن تحوَّلت بالعَنعَنة والنقل إلى شائعة يتداولها الناس بأن رجلاً من أهل بغداد، قد قتل المنصور غِيلة وهو نائم.

هذه الحكاية التندريَّة، صحَّت أم لم تصح، هي مدخل أكثر من واقعي، لحديثي عن الشائعة. فكيف تحوَّل قتل صُرصُور إلى قتل المنصور ذاته، وهو أقوى وأمضى رجل في الدولة الإسلامية حينها، والمتسيِّد على أكبر رقعة جغرافية في الدنيا في ذلك الزمان؟! هذا الأمر، يجعلنا نفهم كُنه الشائعة، ومدى خطرها الداهم (بالضرورة) على الحيِّز الذي تقع وتعتمل وتذوب فيه.

ولربما كان ذلك الحيِّز جيشًا لا ينكسر، فتصيبه شائعة أو كذبة في مقتل. وربما يكون ذلك الحيِّز بيتًا للحكم والسلطة، تتآمر عليه الدول بالشائعة والكذب، لهَدِّه وتهوينه وزوال أركانه. وربما يكون ذلك الحيِّز مجتمعًا متنوعٌ في أعراقه وطوائفه، لكنه متآلف، وأرِيْدَ له أن يتناحر، ويتذابح، ويتخاصم على وقع كِذبة أو مجموعة أفائِك، كي يستريح فاعلها وناشرها من عناء التودُّد للخاصة، والعدل على العامة، ويتفرغ لما هو فيه وما يريده، في أن يسود ويحكم، ويستولي على الثروات والخيْرات، وسط انشغال الناس بأمر بعضهم وأمر دمائهم.

في التاريخ، عِبرٌ لا تنتهي فيما خص الشائعات وويلاتها على الأمم. فقد قُتِلَ المسيحيون في روما شرَّ قتله في عهد القيصر الروماني المتجبر نيرون، بسبب شائعة كانت تقول، بأن المسيحيين هم من تسبب في حريق المدينة الهائل، ثم ثبتَ أنها كذبة استخدمها القيصر لإبعاد التهمة عن عرشه. وقتِلَ وجُرِحَ الكثير من اليهود في مدينة كيلسي البولندية (جنوب شرق) في العام 1946 عندما هاجمت جموع غاضبة من المسيحيين البولدنيين يهود المدينة ممن كانوا يعيشون معهم منذ مئات السنين، بعد شائعة تم ترويحها كانت تقول، بأن اليهود في كيلسي يقومون باستخدام دماء الأطفال المسيحيين خلال طقوس الأديرة اليهودية.

واحتلت الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا العراق في العام 2003، بذريعة امتلاك نظام صدام حسين أسلحة دمارٍ شامل، وقتلتا مليون ونصف المليون من العراقيين، وهَجَّرتا أربعة ملايين منهم، في هجرة داخلية وخارجية، هي الأضخم منذ التهجير الكبير، الذي وقع على الفلسطينيين بعد قيام الكيان الصهيوني في العام 1948، ورمَّلا مليوني عراقية، ويتَّمتا أربعة ملايين طفل عراقي، وفتَّتتا مجتمعه، وزِيجاته المختلطة ثم ظهر أنها مجرد كِذبة وشائعة!

كلّ الشائعات يُمكن تصريفها أو تخريجها عبر موبوء السياسة، إن كانت ترمَى في شَرَرِ الحروب، والمحاربين، لكنها لا تكون كذلك، إذا كانت توقد بين الناس، والمجتمعات الساكنة، والمتآلفة. لا يُمكن أبدًا، اللعب بمصائر الشعوب، في سبيل الاحتفاظ بالسلطة والجاه، لأن الثمن بينهما ضائع ولا يُقاس أبدًا. فتركيبة المجتمع قائمة على التغاير في الميول والاتجاهات والأفكار والانتماءات والطوائف والأعراق، والعشائر وخلافها، وبالتالي، فإن أي إقلاق لكل تلك المتباينات، سيخلق ارتباكًا مباشرًا في الفهم الشخصي والجماعي، الأمر الذي سيؤدي إلى خلاف عمودي سريع جدًا، خصوصًا في الوقت الراهن، مع وجود كلّ هذا التطور في المسألة الاتصالية.

لا يتصوَّر أصحاب الشائعات، أنهم بذلك قد أصابوا دهاء السياسة، أو كياسة التصرف، أو فطنة العقل. أبدًا، فذلك إن حصل، فلأن الضحية، ومن خلال ظروفه النفسية والاجتماعية والبيئية، له (أساسًا) قابلية التفاعل مع ذلك الأمر بطريقة تلقائية، فما هو فيه، سَمْتٌ طبيعي تستوي عليه المجتمعات، واختلاف البشر، وبالتالي، فإن ضرب ذلك الواقع، اعتمادًا على التغاير الكامن في الانتماءات والاتجاهات، لا يعدو من الدهاء ولا الكياسة ولا الفطنة، بالضبط مثلما الفارق بين الصدق والكذب. فالأصل، أن الناس تصدق بعضها، فيأتي الكذب، ليستولي على الحيِّز المحصور ما بين المرسل والمتلقي، ليجعل من الرسالة بغير ما انتظم وتسالم عليه البشر، فيقع خلاف الصدق، دون أن يكون الصادقون بلَهاء، إلاَّ بعد التمحيص.

ولكن، وضمن هذه المفردة، لا يمكن التطرق إلى مسألة الشائعات، دون أن يكون هناك حديث أيضًا، عن الدور الذي من المفترض أن تقوم به المجتمعات في مكافحة وباء الشائعات. فهذه المجتمعات، ووسط كل الخصومات، واختلاف المصالح ما بين البشر، ودخول السياسة في زفير المجتمع وشهيقه، وقيام التحالفات، وحبَكَات التآمر، وتعاظم شهوات السلطة والجاه، يتوجب عليها (المجتمعات) أن تفترض الريبة في كلّ كلمة تقال بحق اجتماعها وتآلفها، لأن الأصل، هو أن تبقى موحَّدة، وإذا ما جاء أحد ليدعوا إلى غير ذلك، فالأصل أنه داعٍ مشبوه.

انظروا إلى المجتمعات المختلطة الأوروبية، بعد الحروب الدينية، والتي ولدتها الدولة الحديثة في أوروبا منذ مشروع ماتزيني، لم تعد تتعامل مع تناقضاتها الاجتماعية بأقل من العض على وحدتها بالنواجد. التربيع السويسري وكانتوناتها، والثنائية الهولندية، كلها باتت حريصة كل الحرص على وحدتها في الأرض. صحيح أن هناك تجريماً قانونياً رسمياً لمسألة العبث باجتماع الناس، لكن توجد هناك أيضًا، رغبة اجتماعية طبيعية، ورقابة ذاتية لمحاربة أيّ عابث بالتناقضات الاجتماعية. وهذا الأمر في حقيقته، علامة من علامات الوعي الاجتماعي، الذي تقاس به الشعوب، فتبان حصافتها من ضعف بنائها، وانجرارها الأعمى نحو تصديق كلّ ما يقال عن مكوناتها حتى ولو كان هزيلاً لا يستحق الالتفات إليه فضلاً عن تصديقه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3500 - الجمعة 06 أبريل 2012م الموافق 15 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 1:33 ص

      التفكير بالنيابة

      المجتمعات التي تكون اسيرة لحكامها عادة ما تكون جاهلة وتترك التفكير للسلطة تفكر عنها وتوجهها وتمنحها المعلومات دون ان يكون لديها ادنى قدرة على التحقق
      هذه مجتمعات فاشلة تمامااااااااااااااا

    • زائر 2 | 1:29 ص

      مجتمعنا البحريني

      مقال اكثر من رائع ويلامس مشكلات ومآسي مجتمعنا البحريني بارك الله فيك وفي هذا القلم المعطاء

    • زائر 1 | 12:52 ص

      ليت الناس تقرء

      القرائه هي السبيل للمعرفه والمعرفه هي السبيل للتطور. كثير من شبابنا تاخذه الحماسه دون المعرفه والمجتمع لا يساعد. حسينياتنا بركه علينا ففيها كل العبر.. جزاك الله خيرا.

اقرأ ايضاً