العدد 3500 - الجمعة 06 أبريل 2012م الموافق 15 جمادى الأولى 1433هـ

الماضي والدين والمحبة

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

إذا أردتَ اليوم أن تفهم مجتمعاً ما فكل ما عليك فعله هو أن تقرأ ما يكتبه أفراده على «تويتر» و«فيسبوك»، وتشاهد ما يشاهدونه على «يوتيوب». فمن خلال الإعلام الاجتماعي صار يمكننا - إلى حد بعيد - أن نفهم (العقل الجمْعي) لمجتمع أو أمة ما، والنفسية الجمْعية أيضاً لتلك الأمة. لقد أبرَزَت هذه الوسائل أفضل ما فينا وأسوأه، فَعَرّت أفكارنا، وجرّدت شخصياتنا من كل الأقنعة التي تشبثنا بها لعقود طويلة.

كنتُ أتحدث مع مجموعة من الأصدقاء عن العنف الفكري والإرهاب النفسي الذي انتشر أخيراً على «تويتر»، وتساءلتُ إن كُنّا نحن العرب فقط من نَشتم ونُكفّر بعضنا هناك أم أن أمماً أخرى تفعل ذلك أيضاً؟ فهل يشتم الهندي الهندوسي مواطنه المسلم والعكس؟ وهل يُخرِج الإيطالي الكاثوليكي قرينه الأميركي البروتستانتي مِن المِلّة المسيحية كما يفعل السنّي بالشيعي والعكس؟

لقد بات الدين الإسلامي ضحية للصراع الطائفي والعِرْقي الذي انفجر أخيراً على وسائل الاتصال الحديثة، وانتشرت المُزايدات من مختلف الأطراف والمذاهب التي يدعي أصحاب كل منها حصولهم على الحقيقة المطلقة. تكمن المشكلة الحقيقية هنا أن الجميع يستشهد بالماضي لبيان مدى صحة ادّعائه، ولا أعني بالماضي النص المقدس أو السيرة النبوية، بل أعني به الفترة التي بدأت منذ انتهاء جيل الصحابة رضوان الله عليهم، وانتهت بواقعة حرق كتب ابن رشد ثم سقوط حكم المسلمين في الأندلس؛ وتوالت بعدها حوادث السقوط السياسي والمعرفي، حتى وصلت الأمة إلى مرحلة السقوط الحضاري الشامل عند اكتشاف الأوروبيين للقارة الأميركية، وبداية سيطرة القوى الأوروبية على العالَمَين، القديم والجديد. وأتساءل هنا: هل الصواب في ديننا هو ما يأتينا من الماضي فقط!

لقد حاول فلاسفة كابن خلدون تشخيص العقل الإسلامي ذي الهوية العربية لفهم أسباب بداية انحدار الأمة في منزلق حضاري سحيق؛ حين قال جملته المشهورة «إن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيّه ونحلته وسائر أحواله وعوائده؛ والسبب في ذلك أن النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه، إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه، أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي؛ إنما هو لكمال الغالب» ولكن لو عاش ابن خلدون بيننا اليوم وكان موجوداً على «تويتر» لأيقن بأن «الغالب» لم يعد غالباً مُعاصراً، أي موجوداً معنا في الزمان نفسه، ولكنه صار غالِباً ماضوياً، أي تاريخي! ولكي أُقرّب المعنى؛ كنا نظن بأن المجتمعات الشرقية - والعربية منها خصوصاً - مولعة بالثقافة الغربية، والأميركية على وجه الخصوص، وذلك لتفوق تلك الثقافة في تصدير الإنتاج المعرفي والصناعي. ولكننا اكتشفنا أخيراً، وبسبب الإعلام الاجتماعي، بأن مجتمعاتنا العربية مولعة ومتعلقة أكثر بتقليد ثقافات إسلامية تاريخية ماضوية، لاعتقادها بأن أفكار تلك الثقافات وممارساتها أنسب لنا ولعصرنا ولخصوصيتنا الإسلامية، من أي ثقافة معاصرة. وهذا في رأيي أحد أكبر أسباب الإرباك الحضاري الذي يعاني منه العقل العربي/الإسلامي. فعندما يُحاول أحد أن يعيش في القرن الواحد والعشرين، بالطريقة نفسها والممارسات والأفكار التي عاش بها التابعي الجليل الحسن البصري، فإنه يظلم نفسه ويظلم الحسن البصري معه، ولو أن الحسن البصري، وهو في رأيي أحد أعظم فقهاء الإسلام عبر التاريخ، ظهر بيننا اليوم لأنكر على هؤلاء محاولاتهم لإسقاط ثقافته على ثقافتهم.

يقول الفيلسوف الألماني يوهان هيردر بأننا «لابد أن ندرس الماضي لنفهم مشكلات اليوم والغد» ولكن الصراع الفكري، السطحي الذي نشهده في الإعلام الاجتماعي، يدل على أن كثيراً منا يدرس الماضي ليفهم مشكلات الماضي فقط، وليس ليستفيد منها لفهم اليوم والغد. بل إن أكثر هؤلاء مازالوا يجترّون صراعات الماضي السياسية والإيديولوجية ويسقطونها على واقعنا اليوم ظناً منهم أنهم بذلك (يؤيدون) الدين وينصرونه، ولا يدرون بأنهم يسيئون إليه ويحجّمونه ويجعلون منه أداة لتصفية عُقَدهم النفسية والاجتماعية. لقد صارت كلمات مثل «الإسلام، الشريعة، العقيدة، السلف...» مرتبطة بالعنف والتكفير والتبديع، بينما هي في الحقيقة مرادفات لكلمات مثل «السلام، والقانون، والإيمان، والتسامح...».

بتنا نقرأ كثيراً جملاً مثل «الإسلام بريء منكم» وأتساءل: إن كان الإسلام بريئاً من جميع الطوائف والمذاهب التي تعتنقه اليوم، فمن إذن ينتمي للإسلام حقاً؟ وإلى أين ستُفضي بنا هذه المزايدات على الدين؟ والسؤال الأهم هو: هل صار الفكر الإسلامي أكثر نقاءً ووضوحاً وخلواً من البِدع والضلالات بسبب هذه المهاترات السطحية والمزايدات الفارِغة؟ وكيف نستشهد بالقرآن والسنة اللذين هما مصدرا التسامح، لنجيّرهما في حروبنا الكلامية العُنصرية!

عندما كبر الحسن البصري قليلاً رآه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فدعا له قائلاً: «اللهم فقهه في الدين وحببه إلى الناس», وكأن عمر يقول لنا بأننا لن نستطيع أن نغيّر الناس إن لم نستطع أن نحبهم أولاً.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 3500 - الجمعة 06 أبريل 2012م الموافق 15 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 3:05 ص

      نكبة الواقع ... الكالــــــــح

      وآخر المعارك بسبب ما وصف بتشيع الشيخ الكبيسي ،إنها الفوضى الإرهابية أخذت مرة واحدة تجتاح وتهدّد العالم وتملأ مستقبله بالغيوم والرعود وهي فوضى تكفير وإرهاب وشن حملات تسفيه وتشويه لآراء ، بعيدة عن وحي القانون وضوابط الضمير وأبعد من ذلك كله عن مرضاة الله إنها نكبة تعود بنا للجاهلية الأولى بكل ما شأنها من سوءات وعيوب . وتحياتي لكم ... نهوض

اقرأ ايضاً