العدد 3500 - الجمعة 06 أبريل 2012م الموافق 15 جمادى الأولى 1433هـ

تجنب العداوات... «فن التغافل» مثالاً

منصور القطري comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

رُوي أن الإمام علي (ع) كان جالساً في أصحابه فسمع رجلاً يشتم قنبر (خادمه) وقد همّ قنبر أن يرد عليه فقال له الإمام: «مهلاً يا قنبر! دع شاتمك مهاناً ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك، فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم، ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت، ولا عوقب الأحمق بمثل السكوت عنه».

سألت صاحبي (الجليس الصالح والأنيس الناصح) وما علاقة ذلك بسؤالي؟ قال: أعد السؤال. قلت: مضى عليك زمن في قيادتك للناس وعلى رغم ذلك فأنت تحافظ على علاقة رائعة مع الجميع. فما هو السبب في ذلك الانسجام؟ قال صاحبي: هناك قاعدة سلوكية تناسب مختلف نواحي الحياة في دائرة العمل التي يقضي الإنسان فيها أكثر من نصف يقظته، وفي المحيط العائلي وبين الزوج والزوجة، وفي التعامل مع الشخصيات غير المريحة والشخصيات العابرة التي يصادفها الإنسان في المناسبات الاجتماعية أو السوق أو في أثناء قيادة السيارة... وتتمثل هذه القاعدة في تجنب العداوات، وإن إحدى الأدوات المهمة لها هو «فن التغافل»، حيث تجسدت هذه الآلية في قول الحسن البصري: «لازال التغافل من فعل الكرام». قلت وما هو التغافل؟ قال صاحبي: «التغافل هو إعراضك عن أمر صدر من صديق أو عدو، وأنت تتيقن غرضه السيئ منه ثم تقوم بالتحلم أو التسامح في التعامل معه».

لذا فالتسامح مرتبط بالتغافل في سماته السلوكية، وقد عرّفت الجهات الحقوقية التسامح بأنه القدرة على إيقاع العقوبة إلى جانب القرار الواعي بعدم استخدام تلك القدرة. كما فعل الإمام علي مع الخوارج، فقد كان الإمام يوماً يعلّم ويوجّه أصحابه، فقال رجل من الخوارج: «قاتله الله كافراً ما أفقهه»، فوثب القوم ليقتلوه فقال الإمام علي: «رويداً... إنما هو سبٌ بسب أو عفوٌ عن ذنب».

وقد جاء في كتاب «مدارج السالكين» قول أبوعلي الدقاق إنه جاءت امرأة فسألت حاتمَ عن مسألة فاتفق أنه خرج منها صوت في تلك الحالة، فخجلت فقال حاتم: «ارفعي صوتك»، فأوهمها أنه أصمّ، فسُرّت المرأة بذلك وقالت: إنه لم يسمع الصوت، فلُقب بحاتم الأصم. وقد علق ابن القيم الجوزي على هذا الأدب الذي وقع من حاتم الأصم بقوله: يمكن أن نسميه «أدب التغافل». وهو من أدب السادة، أما السوقة فلا يعرفون مثل هذا الأدب، ولذلك تراهم - لدنو همتهم - يحصون الصغيرة ويجعلون من الحبة قبة. ومن المواقف الجلية في أدب التغافل أيضاً ما ذكره ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح قال: إن الرجل ليحدثني بالحديث فأنصت له كأن لم أسمعه قط وقد سمعته قبل أن يولد. وجاء في السيرة أن الإمام زين العابدين كان ماشياً ذات مرة فاعترضه شخص معتدياً عليه بالسب والشتم، فلم يلتفت إليه الإمام فتبعه الرجل وصرخ في وجه الإمام: هيه إياك أعني! فأجابه الإمام: وعنك أعرض! فالإمام كان يسمع السباب لكنه ترفع عن الرد وكأنه لم يسمع! «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً». ويقول الإمام الشافعي:

يخاطبني السفيهُ بكل قبحٍ فأكره أن أكون له مجيبا

يزيد سفاهةً وأزيد حلماً كعودٍ زاده الإحراقُ طيبا

هنا علق صاحبي مواصلاً الحديث: فما أحوجنا إلى الترفع عن السباب والتقليل من شأن الآخرين! ومن المثير للدهشة النظر إلى حجم التعليقات السلبية في مواقع الشبكات الاجتماعية - وخصوصاً لدى الشباب - حول أية قضية يثيرها الإعلام، فتتحوّل إلى كرة لهب تتقاذفها الأطراف المتصارعة لمجرد أن الآخر نختلف معه. قلت لصاحبي: لكن هناك شخصيات تعتبر أن رد الإساءة بمثلها نوع من القوة، وأن غض الطرف عن الإساءة أو التجاوز عن الخطأ يجعل الإنسان في موقع الضعف والمذلة، فقال صاحبي: تذكّر أولاً أن العفو والتسامح مصدر محبة الآخرين لك. يقول الشاعر:

أحب من الأخوان كل مواتِ... وكل غضيض الطرف عن هفوات

وتذّكر ثانياً أن العفو والتسامح مصدر قوة، فجميع الرسل والأنبياء والعظماء تخلقوا بهذه الصفة فكبروا وعلا قدرهم بأخلاقهم وعفوهم وسعة صدورهم. يقول الإمام جعفر الصادق: «عظّموا أقداركم بالتغافل»، وقال الإمام أحمد بن حنبل: «تسعة أعشار حسن الخُلق في التغافل».

وقبل أن أغادر سألت صاحبي: إذا كان لدينا في تراثنا الديني كل ذلك المخزون الرائع من الأخلاق فما السبب في تعطل فاعلية تلك السلوكيات في واقعنا الإداري والاجتماعي؟ فتبسّم وقال: سوف أدلك على دراسة سلوكية جميلة في كتاب «كيف تصبح نجماً لامعاً في العمل؟»، لمؤلفه روبرت كيلي، حيث قام فريق من الاستشاريين في مجال تطوير الفعالية الشخصية لكشف أسرار تألق بعض الموظفين في العمل مع بقاء غيرهم من الزملاء (محلك سر). بعد الدراسة والبحث والمقابلات أعلن فريق الدراسة فشل البحث! والسبب أنهم لم يكتشفوا فرقاً بين الموظفين في سماتهم الذهنية أو الشخصية أو الاجتماعية ولكنهم اكتشفوا ظاهرةً جديرةً بالتأمل والاهتمام! اكتشفوا أن سر تميز الموظف لا يكمن في نوع المهارات التي يمتلكها ولكن في نمط استخدامه لهذه المهارات في الحياة! ونصحني صاحبي أن أتذكر دائماً مقولة غاندي: «الضعيف لا يمكنه العفو... فالتسامح شيمة الأقوياء».

إقرأ أيضا لـ "منصور القطري"

العدد 3500 - الجمعة 06 أبريل 2012م الموافق 15 جمادى الأولى 1433هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 3 | 2:57 ص

      بوركت يا عزيزي!! و حبّذا لو يكون هذا مُحور طرحك القادم:

      (رأس العقل بعد الإيمان بالله مداراة الناس)
      و
      (التودد إلى الناس نصف العقل)

    • زائر 2 | 2:41 ص

      أحسنت

      أحسنت.

    • زائر 1 | 12:28 ص

      نقطة مضيئة

      هذا مصداق لقول الله سبحانه ( ... وأعرض عن الجاهلين)، لذا نرى كبار العقول يترفع عن سفاسف الأمور ، لأن ( قبح الكلام سلاح االلئام) و ( عدو عاقل خير من صديق جاهل). وأختم قائلا: إن إسلوب السباب هي طريقة العاجزين، ولكن آنى لك أن تلغي العقول التي حبانا الله إياه لنفكر! صح لسانك يا أخ منصور!

اقرأ ايضاً