قد يقع البعض في الخنوع السلبي عند مجابهة المشاكل المتفاقمة في مواجهة الأنظمة الدكتاتورية، وقد يستنتج البعض أنه يجب الاتفاق مع النظام الدكتاتوري الذي يبدو وكأنه سيبقى إلى الأبد، عندما لا يرون وجوداً لأية فرصة لتحقيق الديمقراطية، حيث يأمل هؤلاء أن يكون باستطاعتهم إنقاذ عناصر إيجابية وإنهاء الممارسات الوحشية من خلال الصلح والتنازل والمفاوضات. يبدو هذا الخيار مقنعاً وخصوصاً في حالة غياب الخيارات الواقعية.
إن النضال ضد الأنظمة الدكتاتورية لا يعتبر أمراً محبباً، فلماذا إذاً اتباع هذا السبيل؟ ولماذا لا نكون عقلانيين ونجد سبلاً للخلاص من خلال التحدث والتفاوض لإيجاد طريق ينهي النظام الدكتاتوري بشكل تدرجي؟ ألا تستطيع الحركات الديمقراطية أن توثر على الشعور الإنساني لدى النظام الدكتاتوري وتقنعه بتقليص سيطرته درجة درجة، ومن ثم الاستسلام كلياً لبناء الديمقراطية؟
يقول البعض إن الحقيقة لا تقع في جانب واحد، فقد تكون الحركات الديمقراطية قد أساءت فهم حكم الدكتاتوريين الذين ربما عملوا من منطلق دافع جيد في ظروف صعبة، أو قد يظن البعض أن الحكام الدكتاتوريين يتنازلون عن عروشهم في الظروف الصعبة التي تواجه البلاد إذا تم تشجيعهم واستهواؤهم. ويقول البعض الآخر إن بالامكان العرض على الحكام الدكتاتوريين حلاً مرضياً لجميع الأطراف. وقد يقول البعض إنه لا توجد هناك حاجة للمزيد من النضال والمعاناة إذا كانت المعارضة الديمقراطية راغبة في حل سلمي قد تساعد في إبرامه حكومة أخرى أو أفراد آخرون لتسوية النزاع من خلال المفاوضات. ألا يبدو هذا الأمر أفضل مقارنةً بصعوبة المعاناة والنضال حتى لو كان هذا النضال اللاعنفي بدلاً من الحروب العسكرية؟
تعتبر المفاوضات أداة مهمة في حل بعض أنواع قضايا النزاع ولا يمكن تجاهلها أو رفضها عندما تكون في الموضع المناسب. ففي بعض الحالات التي لا تكون فيها القضايا الجوهرية في خطر وبالتالي يكون التنازل أمراً مقبولاً نجد أن المفاوضات وسيلة ناجعة لتسوية النزاع. يعتبر الإضراب عن العمل للمطالبة برفع الأجور أحد الأمثلة الجيدة على الدور المناسب للمفاوضات في حل النزاع، لأن الوصول إلى تسوية عن طريق المفاوضات سيؤدي إلى رفع الأجور لدرجة ترضي طرفي النزاع. ولكن تختلف نزاعات العمل مع نقابات العمال القانونية عن النزاعات التي تكون فيها قضية استمرارية بقاء نظام حكم دكتاتوري أو إنشاء حرية سياسية على المحك.
فعندما تكون القضايا التي على المحك تؤثر في مبادئ دينية أو قضايا الحرية الإنسانية أو تؤثر في التطور المستقبلي للمجتمع عموماً، فإن المفاوضات لا توفر وسيلة للوصول إلى حل يرضي جميع الأطراف، لأنه لا يمكن تقديم تنازلات عن بعض هذه القضايا. في هذه الحالة يكون التحول في موازين القوى لصالح الحركات الديمقراطية فقط قادراً على حماية القضايا الأساسية الموضوعة على المحك. يحدث هذا التحول من خلال النضال لا المفاوضات، لكن هذا لا يعني عدم اللجوء إلى المفاوضات أبداً. القضية هنا أن المفاوضات قد لا تشكل خياراً على الإطلاق، لأن الحكام الدكتاتوريين المتمكنين الذين يشعرون بالأمان في مراكزهم يستطيعون رفض التفاوض مع المعارضة الديمقراطية، أو قد يتسببون في اختفاء المفاوضين الديمقراطيين عن الوجود عند بدء المفاوضات.
عادة ما يكون لدى الأفراد والجماعات المعارضة للأنظمة الدكتاتورية وتفضل أسلوب المفاوضات دوافع جيدة وخصوصاً عندما يكون النضال المسلح ضد دكتاتورية ما قد استمر لسنوات عدة من دون تحقيق النصر، بالتالي فإن الناس بغض النظر عن توجهاتهم السياسية سيرغبون في حل سلمي. والجدير بالذكر أن الحركات الديمقراطية تحمل قضية المفاوضات محمل الجد وخصوصاً عندما يكون التفوق العسكري لصالح الأنظمة، ويصبح حجم الدمار والخسائر البشرية أمراًَ غير محتمل، عندها نجد رغبة قوية للبحث عن طريق آخر يستطيع أن ينقذ بعض أهداف الحركات الديمقراطية وفي الوقت نفسه ينهي دائرة العنف والعنف المضاد.
عرض “السلام” من خلال التفاوض مع الحركات الديمقراطية الذي تتقدم به أنظمة الحكم الدكتاتوري هو عرض خداع، فهي تعرض التوقف عن العنف مقابل التوقف عن شن حرب على شعوبهم، وتجدهم يبادرون من دون أية مساومة إلى إعادة الاعتبار إلى الكرامة الإنسانية وتحرير المعتقلين السياسيين ووقف التعذيب ووقف العمليات العسكرية والانسحاب من الحكومة والاعتذار للشعب.
عندما يكون نظام الحكم قوياً ولكن يعاني من وجود مقاومة تقلق مضاجعه، فإنه يود عرض التفاوض على المعارضة لكي يجرها نحو الاستسلام تحت شعار “صنع السلام”. وقد تظهر الدعوة للمفاوضات بمظهر جذاب، ولكن هناك مخاطر جمة تحيط بها.
بالمقابل عندما تكون المعارضة قوية ويكون النظام مهدداً فعلاً، نجد الحكام يسعون وراء التفاوض لينقذوا أكبر جزء من السيطرة والثروة التي بأيديهم. وفي الحالتين لا يجب على الحركات الديمقراطية مساعدة الحكام، بل عليها ان تدرك أنهم ينصبون مصائدهم في قلب العملية التفاوضية. وعندما تكون الدعوة للمفاوضات في وقت تكون فيه قضايا الحريات السياسية على المحك فقد تكون هذه الدعوة محاولة لجر الحركات الديمقراطية للاستسلام بطريقة سلمية، بينما يستمر العنف لديهم. ففي مثل هذا النوع من النزاعات يكون الدور الأمثل للتفاوض في نهاية نضال حاسم يسعى من خلاله الحكام باتجاه إيجاد ممر آمن إلى أقرب مطار دولي لينجوا بأنفسهم بعدما انهارت قواهم.
لا تعني المفاوضات أن يجلس طرفا النزاع معاً على أساس متساوٍ ويتحدثون ويجدون حلاً للخلافات التي أوجدت النزاع بينهم. هناك حقيقتان علينا أن نتذكرهما: أولاً لا تحدّد العدالة النسبية وأهداف الآراء المختلفة فحوى الاتفاقية الناجمة عن المفاوضات، ثانياً، إن قوة وقدرة كل طرف هي التي تحدّد الاتفاقية الناجمة عن التفاوض بنسبة كبيرة.
علينا أن نأخذ العديد من الأسئلة الصعبة بعين الاعتبار: ما الذي يستطيع أن يفعله كل طرف على حدة فيما بعد للوصول إلى أهدافه إذا فشل الطرف الآخر في الوصول إلى اتفاق على طاولة المفاوضات؟ ما الذي يستطيع أن يفعله كل طرف على حدة بعد التوصل إلى اتفاق في حالة عدم التزام الطرف الآخر بوعوده واستخدام القوة المتوافرة لديه في تحقيق أهدافه ضارباً بالاتفاقية عرض الحائط؟ لا يكون التوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض مبنياً على تقييم صحة أو خطأ القضايا الموضوعة على المحك بغض النظر عن كثرة أو قلة مناقشتها، ففي النهاية تأتي النتائج الحقيقية للمفاوضات من خلال تقييم أوضاع القوة الحتمية والقوة النسبية للأطراف المتنافسة. ما الذي تستطيع أن تفعله الحركة الديمقراطية لضمان ألا يكون هناك إنكار لأدنى حد من المطالب؟ ما الذي يستطيع أن يفعله الحكام الدكتاتوريون ليبقوا في السلطة وتحييد الحركات الديمقراطية؟ وفي حالة التوصل إلى اتفاق فإنه يكون ناجماً عن تقييم كل طرف لكيفية مقارنة القوة والقدرة المتوافرة للطرفين ومن ثم إعداد كيفية إنهاء صراع مفتوح.
علينا أن نراعي أيضاً الأمور التي يستطيع كل طرف التنازل عنها من أجل اتفاق. هناك تنازل في المفاوضات الناجحة حيث يحصل كل طرف على ما يصبو إليه ويتنازل بالمقابل عن جزء من أهدافه. (يتبع).
إقرأ أيضا لـ "جين شارب"العدد 3499 - الخميس 05 أبريل 2012م الموافق 14 جمادى الأولى 1433هـ