قبل أكثر من عقد من الزمن، التقيت بالمصادفة في إحدى فنادق مدينة بونا بجمهورية الهند بالأديب الشهير والكاتب الإنجليزي المتخصص في أدب الرحلات تيم ماكنتوش سمث Mackintosh-Smith Tim، فهذا الأديب دارس للغة العربية ويتحدثها بطلاقة، وقد عاش باليمن عدة سنوات وعشقها، وكتب عنها، ومنها مؤلفه المعنون: «قصة المتيم المهوس في بلاد القاموس»Yemen) (Travels in Dictionary Land. وهو حائز على عدة جوائز في مجال أدب الرحلات وله عدة مؤلفات من ضمنها: Travels with a Tangerine; The Hall of a Thousand Columns and Landfalls on the Edge of Islam with Ibn- Battutah. وقد استمتعت كثيراً بذلك اللقاء، حيث تجاذبنا أطراف الحديث لفترة طويلة نسبياً، تخللها احتساء الشاي الهندي ذي النكهة الخاصة المسمى بـ «شاي مصالا» .
وقد كان بصحبته الرسام الإنجليزي الكبير مارتن يومن Martin Yeoman الذي أخبرني في ذلك اللقاء بأنه زار البحرين في مهمة رسمية بصحبة الأمير تشارلز مع زوجته الراحلة الأميرة ديانا سبنسر العام 1987م، حيث أراني ساعته التي كان يرتديها والتي أعطيت له كهدية، وكانت تحمل صورة المغفور له بإذن الله الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان. وقد علمت بأنهم كانوا في ذلك الوقت بالهند في مهمة علمية يتتبعون فيها مسار الرحالة العربي ابن بطوطة، الذي عاش في القرن الرابع عشر الميلادي. وقد كانوا شديدي الإعجاب بالوصف الدقيق لابن بطوطة، حيث تحدثوا بانبهار كبير بأنه لايزال وصفه المتناهي الدقة باقياً (حتى بعد عدة قرون) كما كتب عن مختلف الأماكن التي زارها ووصفها والتي قاموا بزيارتها.
وقد انتابتني في ذلك اللقاء، وماأزال حتى الآن (حين أذكر ذلك الموقف)، مشاعر متناقضة من فخر وإعجاب وفي الوقت ذاته مشاعر الحسرة والأسى، فأما الشعور بالفخر فمردّه أنهم كانوا يتحدثون بانبهار عن عالم فذ من أبناء جلدتي: عربي مسلم، أسهم بشكل كبير في إنتاج المعرفة، تستفيد منه الإنسانية جمعاء. وأما الشعور بالحسرة فراجع إلى المفارقة الكبيرة التي نعيشها، والمتمثلة في أن الذي يقدر ويحتفي بعلماء أمتي هم الغرباء الغربيون، وليس أبناءها، وكذلك راجع بشكل أكبر إلى شعوري العميق بأننا كأمة لم نفِ عظماءَنا حقهم، من خلال الاستفادة القصوى من مختلف أعمالهم الفكرية والعلمية، فضلاً عن إيصال هذه الأعمال إلى شعوب المعمورة بغرض الإسهام ما أمكن في إثراء التراث الإنساني، وفي ذلك خدمة عظيمة لديننا الحنيف وللغة الضاد.
والأدلة على عدم استفادتنا من تراثنا العظيم بشكل صحيح كثيرة لا يمكن أن تحصى في هذه العجالة، ولكني سأسوق مثالاً واحداً يعكس مدى تشتتنا الفكري وعدم استفادتنا من كنوز حضارتنا الإسلامية والعربية، والذي قد يصدر أحياناً عن غفلة أو جهل، وهذا بلاشك معيب، ولربما أحياناً أخرى عن قصد وتعمد، وهو لعمري أنكى للجرح وزيادة في ظلم الإنسان لنفسه ولوطنه، ولأمته وللإنسانية قاطبة.
إن صناعة الأجيال لهي مسئولية كبيرة وعظيمة تتحملها الجهات المعنية المختلفة، الرسمية منها بصورة مباشرة وكبيرة، وغير الرسمية. أما المؤسسات والجهات غير الرسمية، فعادة ما تكون إسهاماتها بصور مختلفة وغير منظمة إلى حد كبير، وهذا راجع إلى عدة أمور، منها أن هذه الجهود في كثير من الأحيان تكون تطوعية، وتتدخل فيها الأهواء والظروف الزمانية والمكانية، وهذا لا يعني أنها غير مهمة، فقد تكون لها في كثير من الأحيان اليد الطولى في تشكيل ثقافة ووعي الأجيال الصاعدة، حين تخفق الجهات الرسمية في تحمل مسئولياتها المناطة بها بشكل سليم، يسهم بشكل صحيح في تنشئة الأجيال الصاعدة.
المطلع ولو بشكل جزئي على بعض مناهج التعليم في البلدان المتقدمة يدرك تماماً أنها تبنى على أسس متينة ومحكمة، وترسم خارطة طريق واضحة المعالم، تأخذ المتعلم بكل سلاسة ويسر إلى تحقيق تلك الأهداف المرسومة. هذا فضلاً عن ربط مختلف أهداف المواد الدراسية بمختلف التخصصات والعلوم وفروع المعرفة الإنسانية بعضها ببعض، بحيث تشكل جميعها حزمة متكاملة تفضي إلى حد كبير إلى تنئشة المتعلم بالصورة التي خطط لها، وبذلك تكون المناهج قد حققت أهدافها. ولهذا أصبحت بعض المصطلحات التي قد تبدو بعيدة عن مجال التربية سابقاً، دارجة الاستخدام في الوقت الحاضر وتحمل في طياتها طبيعة المرحلة التي نعيشها، مثل حرفنة أو هندسة المناهج الدراسية (Crafting engineering Curriculum). وهنا وجب التنبيه إلى أمر تربوي ونفسي في غاية الأهمية، ويتلخص في ألا تكون هذه المناهج التربوية قد صممت أو بنيت على مغالطات علمية، أو تاريخية أو حضارية، حيث إنها حتماً سينكشف زيفها ولن تصمد أمام الحقائق، في ظل الانفتاح والثورة المعرفية الهائلة. فحينها سيفقد المتعلم الثقة فيها بصورة شاملة وقد تصبح فقط مادة يتعلمها الطلبة من أجل إفراغ محتوياتها في الامتحانات، ويعزف عنها لاحقاً، بل ولربما تشكل في وجدانهم بأنها مادة قد تستهدف قيمه وكيانه وحضارته وإنسانيته، وهنا تكمن الخطورة، فحينها حتماً سينقلب السحر على الساحر.
ففي معرض تطبيق توصية لجنة تقصي الحقائق رقم (1725 - أ) التي نصت على: «وضع برامج تعليمية وتربوية في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية لتشجيع التسامح الديني والسياسي والأشكال الأخرى من التسامح، علاوة على تعزيز حقوق الإنسان وسيادة القانون». إن جوهر المشكل في بلدي الحبيب ليس في تناحر مكونات المجتمع، كما هو الحال في بعض دول العالم، بل في المقام الأول الأمر راجع إلى اللعب بالورقة الطائفية من خلال تقريب واحدة وإبعاد أخرى ومحاربتها بشتى الطرق، فعلى سبيل المثال ما هو قائم الآن من تمييز واضح للعيان في عمليات التوظيف والترقي الجارية في معظم وزارات الدولة ومؤسساتها. وعليه، بات من الحتمي، حتى يشفى وطني من دائه العضال، تطبيق حقيقي لمبدأ مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات، كما تنص عليه جميع المواثيق والمعاهدات الدولية وحقوق الإنسان، وكما نص عليه دستور المملكة. وهنا أقترح الاستفادة من كنوز حضارتنا وديننا الإسلامي الحنيف، المنصف ليس فقط للمسلمين، بل للإنسانية جمعاء، وذلك بأن تتبنى وزارة التربية والتعليم رسالة الحقوق للإمام علي بن الحسين السجاد (ع)، التي تشتمل على خمسين حقاً على الإنسان، ابتداءً من حقوق الله تعالى إلى حق نفسه ومحيطه ومجتمعه ودولته، وحقوق أهل الأديان الأخرى. والتي تبدأ بإجمال كالفهرس، ثم تفصل الحقوق واحداً واحداً.
وقد يتراءى للبعض أن رسالة الحقوق للإمام السجاد (ع) هي خاصة بطائفة بعينها، وهذا أمر مجافِ للحقيقة، بل هي وثيقة ليست فقط للمسلمين، بل لجميع البشر. و كل ما نطق به هو من صميم وروح تعاليم ديننا الحنيف والقرآن العظيم. وعليه من واجبنا الاستفادة والإفادة من هذا التراث الإنساني العظيم، في هذا المجال، كما هو الأمر مع العالم العربي المسلم ابن بطوطة الذي أبدع في مجال أدب الرحلات. وطبعاً الواقع العملي يقتضي بأن يشرف على إدخال هذه الحقوق في المناهج الدراسية خبراء متخصصون في المناهج الدراسية، حتى يستفيد منها جميع المتعلمين في مختلف المراحل الدراسية حتى الجامعية، بحيث تبنى على أسس علمية وتربوية، يراعى فيها التدرج في الطرح والنماذج والأنشطة العملية اللصيقة بالواقع الحياتي للمتعلمين، حتى تكون لهذه المادة العملية مغزى وصدى على واقع المتعلمين.
إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"العدد 3499 - الخميس 05 أبريل 2012م الموافق 14 جمادى الأولى 1433هـ
جميل
شيئان توقفت عندهما حين قرأت هذا المقال الجميل. الأول: قولك لم نف عظماءنا قدرهم. وصحيحه لم نوفهم قدرهم. قال تعالى: أوفوا بالعقود لأن الواو أصلية ولازمة في وفي ووفأ. قازن ذلك مع قوله قوا أنفسكم وأهليكم نارا. ففي الحال الأول قال أوفوا وفي الثاني قوا لأنهما فعلان مختلفان.
الثاني: علي زين العابدين لم يك شيعيا أوو إماميا أو سنيا بل كان مسلما. وعليه فهو إمام لكل المسلمين لأنه كان إماما لهم في وحدتهم وقبل أن تنشق الأمة