العدد 1485 - الجمعة 29 سبتمبر 2006م الموافق 06 رمضان 1427هـ

مناقشة هادئة لأفكار البابا (2-2)

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

إن قول البابا أن الجهاد يمثل العنف ضد الآخر في سبيل إجبار الناس على الدخول في الإسلام، فهو إنما يقول ذلك لأنه لم يدرس فلسفة وخلفيات الجهاد في الإسلام. إن الله يقول: «وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم». (البقرة: 190)، وهذا هو الجهاد الدفاعي، أي من قاتلك قاتله، وهكذا قوله تعالى: «وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها»، (النساء، 75)، فإن القتال في الآية إنما يشرع دفاعا عن المستضعفين والمظلومين والمقهورين، وليس عدوانا على الناس. والجهاد هو حركة وقائية أيضا، وذلك عندما تتوفر المعطيات التي تشير إلى خطر محدق بالمسلمين ودولتهم، فيتحرك الجهاد في سبيل رفع هذا الخطر، وقد قال تعالى: «وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ اليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين»، (الأنفال: 58) فتواجه الذين يريدون أن يخونوك بما عقدت معهم من المعاهدات. وهكذا ورد، حول الحرية الدينية لدى الذين ينتمون إلى الإسلام عقيدة وعملاؤ، قوله تعالى: «وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله»، في معالجة الوضع الذي كان يتعرض له المسلمون في مكة من الاضطهاد والقتل والتشريد لتحويلهم عن دينهم وإرجاعهم إلى الشرك الذي كانوا عليه.

وبذلك يكون الجهاد في الإسلام منسجما مع الحالة الإنسانية العامة في دفع الأعداء وأخطارهم، وهو بعيد كل البعد عن العدوان والظلم للآخر، حتى لو كان كافرا. وقد نجد في هذا المجال تصريح القرآن بأن الاختلاف في الدين أو المذهب أو غيره لا يبرر القتال، وإن ما يبرره هو وقوع العدوان والظلم من الطرف الآخر، أيا كان، فنجد في الدائرة الإسلامية الحديث عن قتال المسلمين، فيقول تعالى: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحبا المقسطين»، (الحجرات: 9)، فتحدث عن البغي في الآية وهو تعبير آخر عن العدوان. وأما خارج الدائرة الإسلامية، فقد قال تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون»، (الممتحنة: 8 - 9)، فإن الآية واضحة في أن الاختلاف في الدين لا يبرر القتال، بل إنما يخضع بمنطق الآية لعدوان الآخرين بالقتال أو بالقهر والظلم وما إلى ذلك.

على أن القرآن صريح في أنه «لا إكراه في الدين»، (البقرة: 257)، ولذلك لم يكن القتال لأجل إدخال الناس في الإسلام، وذلك هو شأن دين يقوم على العقل والبرهان في بناء العقيدة، مما لا يخضع لأي ضغط خارجي بعيدا عن الاقتناع الذاتي.

ومن الطريف أن البابا نسب إلى القرآن أن هذه الآية تمثلت في بداية الدعوة إلى الإسلام، عندما كان الإسلام ضعيفا وكان النبي محمد (ص) في حالة ضعف، حتى إذا حصل على القوة تحول إلى الأمر بالقتال. وهذا يدل على جهل البابا بتاريخ نزول آيات القرآن. ولو كان يملك الثقافة العلمية لاكتشف أن هذه الآية الكريمة نزلت في المدينة، أي بعد أن أصبح الاسلام، بقيادة النبي محمد (ص)، في موقع القوة الكبرى، وذلك ما تمثل في انتصاره على المشركين في معارك الإسلام والشرك.

على أن بالإمكان أن نلاحظ على البابا أنه لم يتحدث عما جاء في العهد القديم، من أمر بني «إسرائيل» بإبادة الذكور من البلد التي يدخلونها بالقتل الشامل لهم. وفي نص آخر: إذا دخلتم مدينة أسيلوها بحد السيف، ولا تتركوا فيها رجلا ولا امرأة ولا طفلا ولا حياة ولا نباتا. ولا ندري هل أن عدم الاستشهاد هذا كان خشية من سيطرة اليهود في ألمانيا، فلم يستشهد بنصوصهم الداعية إلى إبادة الإنسان غير اليهودي ليستشهد بالمسلمين في حديث لا عمق ولا صدق فيه؟!

ثم إذا كان يعتبر أن الحروب التي خاضها المسلمون هي حروب مقدسة، وأن قتل الناس كان يتم باسم القداسة. ونحن مع نفينا صفة القداسة عن الحروب الإسلامية بالمعنى الذي يحمله المفهوم لدى الغربي للحروب المقدسة نسأله: ماذا عن الحروب الصليبية، المسماة حروبا مقدسة، والتي قادها البابوات وهاجموا فيها فلسطين وبيت المقدس، وقاموا فيها بمختلف الفظائع ضد المسلمين المدنيين؟ وماذا عن إجبار مسلمي الأندلس على الدخول في المسيحية؟ وماذا عن قتلى المسلمين في الأندلس، هؤلاء الذين رفضوا الدخول في المسيحية؟

وينقل التاريخ في هذا المجال أن المسيحية التي خرجت من الدياميس في عهد قسطنطين الملك لتصبح ديانة القصر والملكية، ألم يضع قسطنطين الصليب على الدروع ليجعل جنوده أكثر شراسة في القتال بحجة أن القتال تحت راية الصليب؟

الاستشهاد بكلام الامبراطور

وإذا كنا نعتبر أن البابا قد أخطأ الفهم في كل ما تقدم من قضايا، فإنه أخطأ الموقف وهو يستعيد رؤى قديمة عبر اقتطاع نصوص تنتمي إلى تلك العصور المغرقة في التاريخ كما حصل في الاستشهاد بكلام الامبراطور البيزنطي المتقدم. وما ذكر في الدفاع عن إيراد هذا النص بأن الاستشهاد بكلام الإمبراطور البيزنطي لا يعكس رؤيته، فإن سياق الكلام ينفي ذلك؛ لأن المسألة هي أن هناك نقلا تفصيليا لمسألة لا علاقة لها بصلب الموضوع؛ لأن ما يراد التركيز عليه وهو مسألة ارتباط الإسلام بالعنف يمكن الإشارة إليه بعيدا عن الاستشهاد بالنص المشار إليه، علما أن هذا النقد للإسلام أعني كونه قائما على إكراه الناس على الدخول فيه بالسيف ليس جديدا، فهو طرح قديم قد أجاب المسلمون عنه كثيرا، إلا أن المسألة هي أن تعمد الاستشهاد بنص يتناول النبي (ص) بهذا الوصف يوحي بأن إرادة الصفة من قبل البابا متعمدة أيضا.

ثم إذا كان البابا يتحدث عن أنه لا يتبنى هذا الرأي، بل هو كلام مقتبس عن الآخر في محاضرة علمية، فإننا نقول له: لقد أخطأت التبرير؛ لأن الباحث العلمي عندما ينقل نصا مقتبسا فلا بد له من إعطاء الرأي فيه، تأييدا أو رفضا، إخلاصا للمنهج العلمي. وهذا ما لم يحصل، بل إن أسلوب الطرح يوحي بأنه جاء به استشهادا لا اقتباسا؛ لأنه يتطابق مع اتجاه المحاضرة في اتهام الإسلام بأنه يقف ضد العقل، ويتبنى العنف في الدعوة إلى الإيمان؛ على اعتبار أن الدين لا يتماشى مع العنف الذي يؤكد البابا بأنه ضد الله والروح، ما يعني أن الإسلام، في مفهومه الإيحائي، ليس دينا سماويا.

وإن من اللافت للباحث أن البابا يعتبر محاضرته فتحا للحوار بين الأديان، بينما هي مهاجمة للإسلام الدين الذي يؤمن به مليار ونصف من الناس بطريقة غير علمية، مرتكزة على جهل بالحقائق الإسلامية؛ لأن أسلوب الحوار بحاجة إلى لغة موضوعية علمية حيادية، لا تشهيرية. ولذلك رأينا أن ضجة عالمية ثارت ضد الموقف البابوي في العالم الإسلامي، وفي أنحاء أخرى، حتى في بعض أوساط المسيحيين والباحثين في مسألة حوار الديانات والحضارات.

وأما تبرير البعض بأن الموقف المستنكر لكلام البابا ناشئ من موقف سياسي، فإن هذا التبرير ناشئ من دراسة غير واقعية؛ لأن العالم الإسلامي انطلق من رفض للإساءة إلى الإسلام وإلى رسوله، ولاسيما أن البابا لا يمثل موقعا سياسيا في العالم، مع احترامنا لمقامه ومنصبه.

وختاما: إننا نؤكد على أننا لا نستهدف في مناقشتنا الإساءة الشخصية إلى البابا، ولا إلى العلاقات الإسلامية المسيحية التي نحرص على توثيقها وتقويتها، وقد كنا من السباقين للتنظير لمسألة الحوار الإسلامي المسيحي. ونستمر في دعوتنا إلى الحوار الموضوعي الإنساني الهادف

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 1485 - الجمعة 29 سبتمبر 2006م الموافق 06 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً