تنزلق المنطقة من أزمة إلى أخرى. ففي غضون السنوات القليلة الماضية، شهدنا حروباً كبيرة، وموجة من الاعتداءات الإرهابية، بالإضافة إلى الانتفاضة التي شهدت مقتل الآلاف من الناس. لقد شهدنا دولاً تنهار، ولكننا نعلم أنها خلال سنوات معدودة ستنقسم مجدداً إلى دول جديدة. فقد أصبحت المشكلة الفلسطينية المزمنة، المشكلة التي جعلنا منها أساساً لشكاوينا الاجتماعية، غير قابلة للحل. بعد ثمانية وخمسين عاماً على خسارة موطنهم، لم يتمكن الفلسطينيون بعد من الحصول على دولة مستقلة. لقد تم تحرير بعض الأراضي وفقاً لاتفاقات أوسلو، ولكنا هذه الأخيرة أصبحت مفقودة الآن. في حين لم يكن ذلك كافياً، فقد أدى انتصار حماس في الانتخابات الفلسطينية العامة إلى تدمير السلطة الفلسطينية ودفع بالأمة إلى شفير الحرب الأهلية.
طبعاً إنه مشهد محزن، حتى عندما ترى المشكلات «الأقل أهمية». انظر إلى العراق وأفغانستان والصومال والسودان وتخيل الرعب المنتشر هناك. وسط جميع هذه الاضطرابات، تمكنت بعض الدول العربية من الحفاظ على استقرارها والقليل من وقارها. ولكن رغم ذلك، لا يمكنها تكبد نتائج الوقوف جانباً. سواء هناك مسألة أساسية أم ثانوية، ينتهي الأمر بالعرب داخلها حتى لو لم يرغبوا بذلك. في كل أزمة متصاعدة لتشكل مخاوف أكبر، يصبح التنحي جانباً أمراً مكلفاً. عندما انتقدت كل من المملكة العربية السعودية ومصر والأردن وغيرها من الدول العربية حديثاً تصرف حزب الله مشيرة إلى أن الحزب الشيعي يعرض بلداً بأكمله للخطر عبر التصرف بعدم مسئولية، جاءت الردود سلبية على انتقاداتهم. فقد أدت الضغوط الداخلية بالذين طلبوا من حزب الله التراجع إلى تركيز الأنظار على ماضيهم المشحون بالمصائب الإقليمية والدولية. مرة أخرى، تعرض الشرف العربي للخطر.
ما أحاول قوله إنه لا يمكن للدول العربية البارزة، على غرار مصر والسعودية، تحمل نتائج تجاهلها للمخاطر التي تلاحقها على الدوام. إن كل أزمة يتم تجاهلها هي عرضة للتفاقم. وكل كارثة يتم تجاهلها تعود لتجتاح تلك الدول مجدداً. لا ينفك توازن القوى في المنطقة عن التأرجح مع كل أزمة، ولا يمكن لأية دولة أن تتكبد عناء الانعزال عن العالم والاستمتاع بلحظة سلام. عاجلاً أم آجلاً ستخترق إحدى الأزمات الإقليمية الوضع الداخلي في واحدة من تلك الدول.
ولكن الجدير بالملاحظة هو أننا لا نملك آلية لاستباق الأزمات أو السيطرة عليها قبل أن تتفاقم. إذ لا يمكنك السيطرة على أزمة إلا من خلال التنبؤ بدقة بسلوك مختلف أطرافها. في هذه المنطقة، لا يمكننا القيام بذلك على الدوام. خلال الحرب الأخيرة التي وقعت في لبنان، لم يتمكن أحد من إدراك ما أراده حزب الله أو حتى ما رغبت «إسرائيل» بتحقيقه. ونتيجة لذلك، تقيد العالم العربي بمهمة الحد من الأضرار. واستدعى ذلك تدخل الجامعة العربية والتزامها بتأمين المساعدة المادية والمعنوية. خلال قيامها بذلك، لم تنس أن تدين «إسرائيل» والولايات المتحدة كونها المسببة لهذا الوضع المأسوي.
قد يكون الحد من الأضرار مكلفاً. في هذا الصدد، لم تكن الأمور سيئة. فقد سجلت أسعار النفط ارتفاعاً كبيراً، وتمكنت السعودية من تقديم مليار دولار أو ما شابه للبنان. وبفضل الضغوطات المصرية والسعودية صيغ القرار 1701 الصادر عن الأمم المتحدة بشكل أفضل من المسودة الفرنسية الأميركية الأساسية. فضلاً عن ذلك، إن لبنان بلد صغير. تخيل ما يمكن أن يحدث في حال وقوع مواجهة متطورة بين إيران والولايات المتحدة، أو في حال قررت «إسرائيل» استهداف المنشآت النووية الإيرانية. لا يمكننا استبعاد سلسلة الحوادث تلك نهائياً. فمن الواضح أنا إيران تخفي أوراقها بغية كسب وقت أكثر ومواجهة العالم بالأمر الواقع حيث تكون قد طورت سلاحها النووي. تقترح إيران التفاوض مع جميع القوى الأساسية دفعة واحدة، الأمر الذي قد يدفعها لتصبح دولة إقليمية عظمى. ربما هذا ما ترمي إليه إيران فعلاً، ولكن الغرب لا يبدو مدركاً لذلك، أم أنه يرفض تلبية الرغبة الإيرانية.
بعد قراءة التقارير الصادرة عن الولايات المتحدة و«إسرائيل»، يمكننا ملاحظة الجو نفسه الذي ساد قبل ستة أشهر على اجتياح العراق. لا أحد في الغرب يريد السماح لدولة أصولية بامتلاك أسلحة نووية.
للأسف، ليس لمؤسساتنا التنفيذية معلومات موضوعية عن الشئون الجارية، كما أنه ما من دليل على أن أجهزتنا الاستخباراتية ناشطة في إيران بأي شكل من الأشكال. إن العلاقات بين واشنطن من جهة والقاهرة والرياض من جهة أخرى متوترة نسبياً. واشنطن لا تتناقش بشأن السياسة الإقليمية مع الدول العربية، ولا حتى مع الدول المتبنية لمعاهدات سلام مع «إسرائيل».
وبالتالي عند وقوع الأزمة الرئيسية التالية في المنطقة، سنكون لا نزال نبحث عن المستحيل. التفاعل تجاه التطورات من دون اعتماد سياسة خاصة بنا، هو الذي طالما قمنا به منذ البداية ويمكنك القول إننا نتقدم في هذا الصدد. ولكنا عدم توفر سياسة معينة هو أمر مكلف، وتزداد الكلفة عندما يرتفع عدد الدول المرتبطة بالمسألة وخصوصا إذا كانت تلك من الدول الكبرى. لذلك، من المرجح أن تتخلل الأزمة التالية مكاسب أضخم من أي شيء شهدناه قبلاً.
لايزال بإمكاننا أن نفلح، وربما تكون هذه خدعة إيرانية كبيرة. في أوائل الصيف، أشارت بعض المجريات إلى رغبة بعض الأشخاص في طهران بعقد صفقة مع واشنطن. وسبق للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها من الدول العظمى أن طرحت عرضاً على إيران، ولكن إيران تطمح إلى صفقة أفضل وهي مستمرة في تخصيب اليورانيوم.
حتى عندما تكون المكاسب عالية، الحظ وحده لا يكفي. فلا يمكن للقادة أن يقرروا سياسة شاملة من دون الحصول على معلومات وخيارات كافية. حتى الآن، لم نقرر بعد ما إذا كانت الأسلحة النووية الإيرانية تشكل خطورة على المنطقة بقدر ما تفعل الأسلحة النووية الإسرائيلية، أم أنها تضعف التهديد الإسرائيلي بشكل أساسي.
إلى حد علمي، لم تناقش الدول العربية هذه المسألة بعد. وإنما يبدو واضحاً أنها تشعر بالقلق، وفي النهاية، فهي مسلمة بقدرها.
عبدالمنعم سعيد
مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية
والاستراتيجية، والمقال ينشر بالتعاون مع (كومن غراوند
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1485 - الجمعة 29 سبتمبر 2006م الموافق 06 رمضان 1427هـ