في خضم ما يتحرك به الاستكبار اليوم ضد عالمنا العربي والإسلامي، سواء على المستوى العسكري والأمني أو على المستوى الثقافي فيما يتعرض له الإسلام من حملات تشويه ليبدو ذا بنية فكرية مفككة أو ضعيفة، والتي منها التعميم الذي يمارس على الإسلام من خلال ما تمارسه جماعات معينة من عنف يطال الأبرياء ما لا يوافق عليه كثير من المسلمين، يطالعنا بابا الفاتيكان بحديث ينسب إلى الإسلام أمورا تنم عن عدم معرفة بالخطوط الإسلامية في علاقة الإسلام بكثير من القضايا التي أثارها، وفي مقدمتها العقل.
فمن حديثه أن الإسلام لا يتفق مع العقل، إلى تناوله لنظرة المسلمين العقيدية إلى مشيئة الله، حيث ينسب إلى المسلمين أنهم يرون أن مشيئة الله لا تخضع لحكومة العقل، مشدداً على ارتباط المسيحية «ارتباطا وثيقا بالعقل، وهو الرأي الذي يتباين مع رأي أولئك الذي يسلمون بنشر دينهم بحد السيف»، مستشهدا بكلام لامبراطور بيزنطي في القرن الرابع عشر، أن النبي محمدا «أحضر أشياء شريرة لا إنسانية، مثل أمره بنشر الدين الذي يدعو إليه بالسيف»، واستخدم البابا في محاضرته مصطلح «الجهاد» و«الحرب المقدسة» قائلاً إن العنف «لا يتفق والطبيعة الإلهية وطبيعة الروح».
ونحن إذ أطلقنا استنكاراً لما أتى به البابا، وطلبنا منه اعتذاراً عما صدر منه، لا لكونه أطلق أفكارا تعكس وجهة نظر تقابل بالنقد والحوار، بل لأن طبيعة حديثه كانت تمثل اعتداء على الإسلام ورسوله الكريم، وأطلق الاتهامات جزافا دونما تدقيق مطلوب من مقام ديني كالذي يشغله.
على أن ذلك لا يمنع من أن نسجل مناقشاتنا ورؤيتنا الإسلامية لما طرحه من قضايا، وإبرازا للمنهج الثقافي في إدارة الحوار، خصوصا في ظل ما يشهده العالم اليوم من حملات متنوعة ضد الإسلام دينا وواقعا.
إن علاقة الإسلام بالعقل هي علاقة عميقة؛ فالإسلام ركز كل عقيدته وكل مفاهيمه وشرائعه على العقل، وجعل الحجة بين الله وبين عباده العقل، واعتبر أن العقل هو الذي يخضع به الإنسان لربه في ما يأمره به وينهاه. ولو درسنا القرآن الكريم دراسة دقيقة لرأينا أن هناك مئات الآيات التي تؤكد على العقل، وتدعو الناس إلى أن يعقلوا ما يفكرون فيه، ويعتبر أن الآخرين الذين يعيشون الغفلة إنما لأنهم لا يملكون العقل والعلم. وهذا أمر لا يحتاج إلى الكثير من التدقيق أو التعماق، بل هو واضح لمن سرح نظره في بعض من آيات القرآن أو السنة الشريفة.
حتى أن المنهج الإسلامي في النقد يرى أنه لا يمكن أن يتعارض النص الديني والعقل، فإذا تعارض ظاهر النص مع العقل لزم تأويل النص لمصلحة العقل إذا أمكن، وإلا فقد قيمته كنص ديني.
وفي موازاة ذلك، ندعوه إلى أن يقرأ بعض الآيات القرآنية التي تؤكد أن المسألة من الناحية الثقافية بيننا وبينكم هي أنكم إذا كنتم تقفون ضد التوحيد ومع الشرك ومع بعض الأفكار فإننا نطلب منكم البرهان. نحن نقول لكل إنسان يخالفنا في الرأي وهذا هو مفهوم القرآن ـ: إن من حقه أن يخالفنا، ولكن عليه أن يقدم البرهان، حتى تكون المسألة هنا وهناك مرتكزة على العقل والمنطق، لا على الظن والخيال وما إلى ذلك. ولذلك قال تعالى: «وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم»، (البقرة، 111). هذه أمنياتهم «قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين». على أي أساس تعتبرون الجنة لكم إن كنتم يهودا أو نصارى؟ وما هي الضمانة التي أعطاكم الله إياها؟
ثم يناقش القرآن هؤلاء «أم اتخذوا من دونه آلهة، قل هاتوا برهانكم» عن هذه الآلهة التي تعتبرونها شريككم لله، «هذا ذكر من معي» وهو القرآن «وذكر من قبلي» (الأنبياء: 24) وهو التوراة والإنجيل «بل أكثرهم لا يعلمون الحق فهم معرضون». ثم يستدل على التوحيد ولا يطلقه كفكرة لا تستند إلى برهان، فيقول: «أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون، لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا»، أي لو تعددت الآلهة، وانطلق كل إله بحسب الخطة التي يخطط لها والتي قد تختلف مع خطة الإله الآخر، فعند ذلك يحصل التنافر فيما بينهم وتتحول المسألة إلى فساد ينطلق من تعدد الإرادات في حركة الكون، «فسبحان الله رب العرش عما يصفون».
ويقول تعالى: «يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم» (النساء: 174) والبرهان هو الدليل.
ثم يؤكد على الناس الذين يدخلون في الحجاج، أن ذلك لابد أن يكون على أساس علمي موضوعي: «ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم» مما تملكون معرفته بشكل وبآخر، «فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم» (آل عمران: 66).
ويشير تعالى إلى أنا حركة القيامة والحساب تستند إلى إقامة الله تعالى للبرهان والحجة على البشر، ولا تنطلق الأحكام جزافاً، فيقول تعالى: «ونزعنا من كل أمة شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم» (العصص: 75)، أي هاتوا الدليل «فعلموا أن الحق لله» لأن البرهان كان دامغا، والحجة كانت ساطعة، «وضل عنهم ما كانوا يفترون».
ويقول تعالى: «الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون، وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه» (الانعام: 8)، فإبراهيم عندما تقدم إلى قومه، وإلى أبيه من قبل، قدم الحجة التي تجعل موقفه موقفا مرتكزا على الدليل.
والخلاصة أن القرآن الكريم يركز على مسألة الدليل والحجة والبرهان، وينطلق بالحوار في المسألة الثقافية، عقيدة أو شريعة أو ما إلى ذلك مما جاء في الديانات. وعلى هذا الأساس قلنا للمسيحيين، وقلنا لليهود أيضاً في المسألة الثقافية، وحتى للذين يبتعدون عن الدين كليا «هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين» (البقرة: 111)، تعالوا لننطلق بالحوار من خلال العقل والحجة والبرهان، ليكون ذلك بيننا وبينكم.
وإذا كان البابا قد حاول التأكيد في مقابل نفيه العقل عن الإسلام على أن المسيحية تختلف عن الإسلام في كونها دين العقل؛ فإننا لا ندري أي إيمان هو إيمان العقل؟ وقد قرأنا تصريحا لبعض المفكرين المسيحيين في تعليل الجمع بين التثليث والتوحيد، بأن المسألة فوق العقل؛ لأن الإيمان فوق العقل؛ لأنه ينطلق من القلب والروح بعيدا عن المعادلات العقلية. وفي المقابل نرى أن العقيدة الإسلامية لابد أن تخضع كلها للعقل الذي يؤسس للإيمان، وهو الميزان الذي تقام على أساسه الفكرة التي يفترض الاقتناع بها والإذعان لها. حتى أن ما يدخل في إطار التعبد والتسليم لابد أن يؤسس طريق الإيمان به من خلال العقل؛ فإننا عندما نؤمن بالعقل بصدق النبي، وأنه رسول الله، فإن العقل يقول لنا أن نصدق ما جاء به، سواء فهمناه عندما نملك أدوات معرفته، أو لم نفهمه لأننا لم نملك تلك الأدوات. وبذلك يكون العقل هو المحور الذي تدور حوله كل القضايا التي تشكل مفردات الإيمان، سواء على مستوى العقيدة أو الشريعة أو المفاهيم أو ما إلى ذلك.
ثانيا: ارتباط المشيئة الإلهية بالحكمة: أما قضية مشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته فإنها تخضع لحكومة العقل. والعقيدة الإسلامية تؤكد أن الله هو الحكيم، وأناه تعالى لا يتصرف إلا بالحكمة، وهو تعالى الذي يؤكد في خلقه للكون على أساس النظام المتوازن الذي يخضع للقوانين الحكيمة المتوازنة التي تقود الإنسان إلى ما فيه الخير كله وإلى ما فيه الصلاح كآله، حيث قال تعالى: «إنا كل شيء خلقناه بقدر» (القمر: 49)، وهو الذي أرسى السنن والقوانين في حركة الكون والإنسان، وقال تعالى: «ولن تجد لسنة الله تبديلا» (الاحزاب: 62). كما إن الله هو الرحمن الرحيم الذي يأخذ عباده بالرحمة كما يفتح لهم آفاق الحياة بما يصلح أمرهم وبما يبعدهم عن الفساد.
ويعلم الباحثون أن منهج العدلية الذي ينتمي إليه المعتزلة والشيعة، يؤكد على الحسن والقبح العقليين، هذه المسألة التي ترتكز على أنه لا يصدر عن الله تعالى إلا كل فعل حسن، ويستحيل أن يصدر القبيح منه. وحتى أن الأشعرة يستدلون على وجود الله والوحي الإلهي بالعقل، فإذا حكم العقل بذلك استسلموا له، وهم عندما لا يقولون بالحسن والقبح العقليين فإنهم لا يجوزون فعل القبيح على الله، بل يرون أن العقل لا يتدخل في ذلك
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1484 - الخميس 28 سبتمبر 2006م الموافق 05 رمضان 1427هـ