يبدأ الحديث عن «النهضة العربية» من أزمتها، مفترضاً أن النهضة حصلت ووصلت إلى مأزق تاريخي لا بد من معالجته لاستكمال البدء الأول، في أسوأ التصورات أو لمباشرة البدء الثاني في أحسنه.
لكن الحديث عن «نهضة عربية» مفترضة يحتاج إلى تدقيق يبدأ بالسؤال عن معنى النهضة وكيف تكون؟
معظم الاجابات عن سؤال النهضة تبدأ من قناعة ذاتية عن وجودها ثم الخوف على اضمحلالها، وتقتصر تلك الردود على بديهية ذهنية لا مكان لها في الواقع. فالنهضة في تلك الاجابات محصورة في تصورات قولية ذكرها بعض من أطلق عليهم «رواد النهضة».
وينقسم الرواد إلى تيارات ترتسم على ضفافها أحياناً الخطوط المذهبية والطائفية. فالبعض يجد في الرومانسيات الانشائية التي ازدهرت عند شلة من الأدباء انها نهضة «فكرية» أدخلت على المفردات العربية بعض الكلمات المستحدثة، والبعض الآخر يجد في الشعر بداية نهوض فكري تجاوز المألوف إلى الجديد المجمل وكسر الكلاسيك ليرسل كلمات نثرية وغير موزونة.
إلى الأدب الرومانسي والشعر «الحديث» ترتفع بعض الأصوات التي تجر النهضة إلى بعض ترجمات موقعة بأسماء عربية انتحلت مدارس فلسفية أوروبية سادت في القرن الثامن عشر واضمحلت في نهاية القرن التاسع عشر. ومن دون إذن مسبق، نسبت تلك الفلسفات الألمانية والفرنسية والانجليزية إلى «مفكرين نهضويين» كانت عندهم الشجاعة على سرقة أفكار غيرهم.
وتم الرد على تيار الفلسفة الأوروبية بتيار إصلاحي قيل انه شق طريق «النهضة العربية» في تصورات فقهية حاولت تجديد القديم تحت وطأة الانبهار بنماذج أخرى. فقرأت النهضة في سياق عقلية لا تاريخية ترى التطور مجرد محطات ايديولوجية لا دور للزمن والبشر في انتاجها. فالتجريد النظري برأي هؤلاء هو البديل عن الواقع وما يحتاج إليه من اصلاح يبدأ بالعمران والزراعة والصناعة والتربية.
باختصار استبدل الواقع بالفكر، والانسان بالطبيعة، والعمل بالاستهلاك، واختصر الجهد البشري والتطور الزمني المديد بفقرات نظرية تتصور المجتمع على صورة الفكرة وتتخيل التقدم بمجموعة تصورات برنامجية هي مجرد مطالب وليست وقائع تنتج وتصنع.
تكرار الكلام عن النهضة وأزمتها جعل الفكر يدور على نفسه وينتكس إلى الوراء ليقرأ الزمن مقلوباً.
ولأن الكلام عن النهضة كان مجرد موضوعات انشاء انتكص الفكر إلى قرن فات من زمننا وبات الحديث يدور حول التقهقر. فالطهطاوي متقدم نظرياً، برأي هؤلاء، على جمال الدين الأفغاني، والأفغاني سابق في زمانه على محمد عبده، وعبده احسن من رشيد رضا... ورضا أفضل من حسن البنا، والبنا على سيد قطب، وقطب على عبدالسلام فرج، وفرج على أيمن الظواهري، والظواهري على أسامة بن لادن، وبن لادن على الملا عمر... إلى آخر فرع في «طالبان» والباشتون.
التقهقر الزمني يعكس ضمناً ذاك التراجع الفكري ليس في بداياته الأولى (وهي ساذجة في معظم الحالات) بل في نهاياته. فالأزمة فعلاً تبدأ من هنا وليس من زمن مضى والتصحيح لا يبدأ من حيث بدأ أسلافنا (في العصر الحديث) بل من حيث نعيش الآن. فالأزمة في حداثة اقتصرت على الذهن وليست في «النهضة العربية»... لأن النهضة لم تبدأ أصلاً. فسؤال النهضة ومعناها وكيف نبدأ بها تنطلق من الواقعة لا من الفكرة. فالسؤال يحتاج إلى «هزة» تاريخية تستعيد الفوات الزمني انطلاقاً من وعي مركب لماضينا وحاضرنا، بهدف تجاوز تلك المحاولات الفكرية الأولى في تجربتنا العاثرة.
بداية محاولات التجديد
منذ ان اطلق جمال الدين الأفغاني في نهاية القرن التاسع عشر دعوته إلى قيام جامعة اسلامية على قاعدة دستور مدني بدأت حركة انبعاث سياسية تطالب بتجديد الفكر الإسلامي واستيعاب قضايا العصر ومستجداته. وتركزت تلك الدعوات على ثلاثة محاور تناولت الجانب التاريخي للاتصال بين العالم الإسلامي وأوروبا، والجانب الفكري الذي تشكل في عقل النخبة العربية التي اتصلت بالغرب منذ بدايات الانفتاح، وأخيراً افكار تلك النخبة واقتراحاتها لتجاوز المأزق الذي وصلت إليه الأمة.
اتسمت كتابات النخبة باستعادة كل القراءات التاريخية للاتصال الأول بين العالم الإسلامي وأوروبا منطلقة من حملة بونابرت والبعثة المصرية إلى فرنسا برئاسة الطهطاوي في زمن محمد علي. علماً بأن التوقيت المذكور ليس دقيقاً لتأريخ الاتصال الأول. فالاحتكاك بين الطرفين أقدم بكثير من ذاك التوقيت كذلك سبقت محاكاة الغرب تلك الفترة بعدة عقود وأكثر. فقبل حملة نابليون جرت اتفاقات ومعاهدات بين السلطنة العثمانية وأكثر من دولة اوروبية وشملت تلك اللقاءات تنظيم العلاقات التجارية وتبادل البعثات الدبلوماسية والتعليمية وتركزت التفاهمات المتبادلة على مسألتين: الأولى، تنظيم الجيش العثماني وتدريبه وتجهيزه بالأسلحة الحديثة. والثانية، تنظيم عمل الارساليات وبعثات التبشير واعطاء ضمانات خاصة للأقليات الدينية غير المسلمة واعتبارها جاليات ذات وضع خاص ترعى مصالحها وامتيازاتها الدول الأجنبية.
الدافع للاتصال كان سببه الحاجة، وتحديداً الحاجات العسكرية التي أملتها ظروف الحرب على الجبهات في اوروبا الشرقية والبلقان. وبسبب حاجات السلطنة الى تحديث الجيش لمواجهة متطلبات القتال دخلت الحداثة الاوروبية المنطقة من خلال الصلة مع السلطة وتحديداً من قناة المؤسسة العسكرية. فاقتصرت الاتصالات بداية ولمدة عقود طويلة على دائرتين: الحكومات (الإدارة والدبلوماسية) والجيوش (الضباط والمدارس العسكرية). وبسبب تلك الصلات انحصرت أنظمة التحديث في مجالات البنية الفوقية وأعطت السلطة العسكرية قوة اضافية جعلت من تلك المؤسسات هيئة خاصة تتمتع بدور مميز في تقرير مصير الدولة.
مع ازدياد نفوذ الجيش وتدخله في الشئون المدنية تحدد مدى دور الدولة الأمر الذي قلص نفوذها على الجماعات الأهلية في المنطقة وساهم في نمو تكتلات اقليمية نجحت لاحقاً في تكوين جمعيات وهيئات غير متوافقة مع التوجهات العامة للسلطنة.
في هذا الإطار الزمني تشكل العقل النظري للنخبة العربية التي اتصلت بالغرب في فترات لاحقة وتحديداً بعد حملة بونابرت وتجربة محمد علي في مصر. فحددت هذه الاتصالات منهجياً الإطار المعرفي للبعثات التي توجهت إلى أوروبا للدراسة أو للتعارف، وعادت تلك الوفود الى بلدانها مندهشة من مشاهداتها التي اقتصرت على ملاحظة النتائج العامة لذاك التقدم ومظاهره الخارجية من دون ان تقرأ السياق التاريخي لعناصر تلك النهضة والعوامل التي ساهمت في نقل اوروبا من قارة متخلفة في القرن الرابع عشر إلى قارة متمدنة في القرن الثامن عشر وصاعداً.
غاب التاريخ عن عقل تلك النخبة التي أصيبت بصدمة حضارية عبرت عن نفسها بكتابات هي أقرب الى الدهشة فوقفت تقارن بين حالين أو مظهرين من دون الدخول في تحليل للأسباب والعوامل التي أدت الى تلك النتائج والمظاهر سواء على المستوى الاداري والتنظيمي أو على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
مع الايام تكرر المشهد في وعي النخبة واستقر في حدود اندهاش الطفل من محيطه من دون ان يتطور عقله لاستيعاب ذاك المحيط وقراءة العوامل التاريخية التي اتاحت الفرصة لتلك القارة بالانتقال من طور التكافؤ مع القارات الأخرى إلى طور التفوق والهيمنة. وبسبب تلك النزعة الطفولية وتكرار المشهد وعدم قدرة عقل النخبة العربية على وعي الحضارات اقتصر جهد الوفود العائدة على استنساخ تلك التجارب الاوروبية وتقليد نماذجها من خلال القفز على الحقائق التاريخية والدفع باتجاه التطور السريع بتخليق مشروعات أفكار انقلابية تفتقد الوعي التاريخي وتراهن على الدولة كقوة قائدة للتحول من دون انتباه الى أهمية الجماعات الأهلية ودورها الاساسي في تقبل الجديد واستيعابه.
غياب التاريخ عن وعي النخبة لايزال ساري المفعول منذ ايام دهشة الطهطاوي مروراً بدهشة طه حسين وغيره. فقراءة النخبة للتطور الأوروبي كانت ولاتزال حتى يومنا تتلخص في دراسة الفكر الأوروبي وتنوع مدارسه ومذاهبه ولم تنتقل إلى دراسة التاريخ الأوروبي وعناصر تكونه سواء على مستوى صلة الدولة بالجماعة الأهلية أو على مستوى الحوادث وتتابع الوقائع بدءاً بالاكتشافات الجغرافية في القرن الخامس عشر والاصلاحات الدينية في القرن السادس عشر ودور الدين في قيادة عملية التحول ونقل السلطة من الكنيسة الى الدولة.
ضعف الوعي التاريخي
بسبب ضعف الجانب التاريخي في وعي تلك النخبة انحرف تفكيرها نحو الايديولوجيا وتبارت في رسم استراتيجيات فوقية للتطور، فجاءت معظم ملاحظاتها في سياق نظري تبحث عن أصول الأزمة من خلال قراءة أقوال فلاسفة تلك الفترة من تاريخ اوروبا وتحديداً من العام 1850 وصاعداً. ولم تخرج تلك الافكار عن سلطة القول والانتقال من قول إلى آخر.
منذ تلك الفترة تراكمت الاقوال المرسلة من الطهطاوي إلى محمد عبده ورشيد رضا وقاسم أمين ومناظرات رينان وصولاً إلى سقوط السلطنة وما تلاها من كتابات لعلي عبدالرازق أو مواقف لعلماء الازهر وعلماء الهند أو تعليقات لطه حسين ومصطفى المراغي أو تحليلات لمحمد اقبال وحسن البنا. وانتهت تلك السجالات إلى انقسام المناهج التربوية وازدواج شخصية الأمة في سياق قراءة ذهنية لأبنية فكرية أوروبية لا صلة لها بتاريخ العرب والإسلام.
كان من الطبيعي ان تكون تلك الصيغ التكرارية لتلك الأقوال المتناقضة ألا تحمل الجواب لأزمة لاتزال راهنة. فالتطور الأوروبي في أساسه كان نتاج تحولات تاريخية كبرى بدأت بالاكتشافات الجغرافية وانتقلت الى الاصلاحات الدينية قبل ان تنتقل الى مفهوم الدولة القومية ثم الى قوى امبراطورية متفوقة قادرة على كسر التوازن الدولي على الجبهات العسكرية أو على خطوط المواصلات والاتصالات التجارية من اميركا الاطلسية الى المحيط الهندي وصولاً إلى الصين.
النهضة الأوروبية لم تكن نتاج تصورات فلاسفة القارة، فأقوال الفلاسفة جاءت بعد ان نهضت أوروبا وحققت تفوقها. كذلك مأزق النهضة الموعودة في عالمنا لم يكن نتاج أقوال نخبة اندهشت بالفارق بين أحوال وأحوال
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1484 - الخميس 28 سبتمبر 2006م الموافق 05 رمضان 1427هـ