إشارات متعارضة تخيم على المنطقة العربية - الإسلامية. وكلها يمكن رصدها من خلال قراءة تلك التصريحات المتضاربة التي تصدر تباعاً من جهات دولية مختلفة. فالعالم فعلاً يمر في حالات سياسية تتنازعها أجواء مشحونة بالسلبيات والإيجابيات، ولكنها غير متفقة على مسألة هطول المطر. فالكل يسأل هل تمطر أم لا؟
كل المؤشرات تقول إن المنطقة ملبدة بغيوم تهدد بعاصفة من الأمطار. ولكن هناك من يتوقع حصول رياح مفاجئة تدفع بالغيوم باتجاه مناطق أخرى بعيدة عن دائرة «الشرق الأوسط».
هذا التذبذب في المواقف يؤكد أن شحنة التعارضات وصلت إلى درجة خطرة وبات من الصعب دفعها درجة إلى الأعلى من دون توقع حصول انهيار عام يقلب كل التحليلات والحسابات. فالكل ينتظر وليس هناك من جواب نهائي يفيد بالنبأ اليقين: هل تهطل أم لا؟
هذا الضياع في تحديد درجة حرارة الطقس يعود سببه إلي الميزان الذي تعتمده إدارة أميركا في قياس توقعاتها. وبسبب ميزان القياس هذا تصبح الملفات المتباعدة جغرافياً متداخلة سياسياً في رؤية الإدارة الأميركية. فهذه الإدارة تنظر إلى المنطقة كرقعة شطرنج وان الأحجار تساند بعضها ولا يمكن الإقدام على خطوة من دون ملاحظة الرقع والأحجار الأخرى. وبسبب هذه الرؤية الاستراتيجية تقرأ واشنطن سلوك المنطقة وفق تصورات لا تميز بين الجديد والقديم وبين أزمات مضى عليها الزمن الطويل وبين أزمات مستحدثة أو مفتعلة. ونتيجة هذا الربط العشوائي اختلطت على واشنطن الأمور وتداخلت القضايا. فواشنطن لا تميز بين «القاعدة» و«حماس» وبين «الإرهاب» و«المقاومة» وبين «الاحتلال» و«التحرير». فكل هذه الاختلافات تنظر إليها إدارة جورج بوش كجزئيات ضمن مفهوم شمولي تتطلع من خلاله إلى المنطقة وما تعانيه من مشكلات.
هذه القراءة الأميركية التي تجمع كل القضايا في دائرة واحدة من دون تمييز بين موضوع وآخر أو من دون تحديد لخصوصية كل مشكلة واختلافها عن غيرها وضعت واشنطن في دائرة مغلقة لا تستطيع التحرك خارج حدودها. ولهذا الاعتبار انزلقت إدارة «البيت الأبيض» في سياسات متخبطة حين وضعت موضوع «طالبان» في أفغانستان على سوية واحدة وفي مكان واحد مع موضوع إقليم دارفور في السودان. وعلى السوية نفسها وضعت قضية فلسطين التي مضى على نكبتها أكثر من نصف قرن مع مسألة «طالبان» وتحالفها مع تنظيم «القاعدة». وبسبب هذا الخلط بين الموضوعات اتجهت الإدارة الشريرة في «البيت الأبيض» إلى وضع سيناريو واحد لحل كل المشكلات من دون قراءة حيثيات كل موضوع واختلاف عناصره وأسبابه ومسبباته عن الموضوع الآخر.
أوهام ووقائع
برأي الإدارة الشريرة أن كل الموضوعات متشابهة ومستنسخة وتقع في معظمها تحت سقف واحد ومشروع واحد وهو إقامة «خلافة إسلامية جديدة من إندونيسيا إلى إسبانيا». وهذا الحديث عن مشروع إسلامي امبراطوري كرره مراراً الرئيس جورج بوش في سلسلة تصريحات وكلمات ألقاها في مناسبات مختلفة. وحين يكون رئيس دولة عظمى مسكوناً بهواجس الخوف من مشروع وهمي وخيالي ولا يقول به كل العارفين بأوضاع المسلمين والعرب تصبح هناك مشكلة في اقناع هذا الرئيس أنه يقاتل «طواحين هواء» ويحارب أعداء غير موجودين فعلاً.
المشكلة في هكذا نوع من الرؤساء تسكنه الهواجس وتركبه المخاوف ويبحث عن دور في معركة وهمية أنه يقع في مكان مضطرب نفسياً ولا يستطيع إدراك الكثير من الحقائق الميدانية. فالرئيس بوش يرى أن المسلمين من إندونيسيا إلى حدود إسبانيا مستعدون لمعركة واحدة. وان الدول المسلمة الممتدة من الشرق إلى الغرب هي على سوية واحدة وقناعة مشتركة وفي حال من الاستنفار للانقضاض على العالم والاستيلاء عليه.
هذا ضرب من الجنون. وخصوصاً إذا وضعت تلك الأفكار المهووسة على أرض الواقع. المسلمون للأسف يعانون الكثير من المشكلات المتعلقة بالأمية والجهل والمرض والقمع والخوف والجوع والتشرد والقلق والتعطل. والدول المسلمة فيها ما يكفي من مشكلات تتصل بالتخلف والقصور والتوتر والارتخاء والانقسام والتشرذم والضياع وقلة الوعي وعدم وضوح الرؤية والتخبط والضعف في التخطيط والتنظيم والدفاع والتنمية والتربية... وغيرها من نقاط تتشكل منها سلبيات وثغرات كافية لابتلاع ثروات واحتياطات ومواد خام طبيعية وبشرية.
هذا الوصف لما يعانيه المسلمون وتعانيه الدول المسلمة ليس توصيفاً لواقع غير موجود. بل إن الواقع المزري يمكن أن يقدم الكثير من الصور السيئة والأمثلة السلبية ما يكفي لتطمين بوش وزمرته الشريرة أن العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى إسبانيا في حال يرثى لها ولا يستطيع الوقوف للتحدي أو التصدي لمخاطر تهدده من كل الجهات. ومن يكون في هذه الحال فهو بالتأكيد لا يملك الإمكانات والقدرات ولا التصورات لإنشاء أو لإعادة تأسيس خلافة إسلامية تمتد من جاكرتا إلى غرناطة. هذا وهم. ولكن بوش لايزال يصر يومياً في تصريحاته على وجود مؤامرة إسلامية تهدد الحضارة الغربية (المسيحية).
هنا بالضبط تكمن مشكلة «الخطر» الإسلامي بين الواقع والمتخيل. كيف يمكن اقناع المخبول بأن المسلمين في وضع صعب يعطل عليهم إمكانات التفكير في الحاضر، وان الدول المسلمة في حال لا يسمح لها بالتفكير في المستقبل؟ وبالتالي كيف يمكن اقناع المخبول بأن الخطر ليس من الإسلام على الولايات المتحدة بل من أميركا على العالم الإسلامي؟ هذا يبدو من الأمور المستحيلة. وبسبب هذه الاستحالة تظهر القضايا مختلطة على إدارة بوش إلى درجة أنها لا تستطيع أن تميز بين مشكلة الباشتون في جبال «تورابورا» ومشكلة «الجنجويد» في سهوب دارفور. فالكل في رأي هذه الإدارة ينتمون إلى سلالة واحدة وتربطهم عقيدة واحدة وتشدهم إلى بعض مجموعة أهداف مشتركة لا تنفصل ولا تنعزل على رغم بعد المسافات الجغرافية واختلاف الثقافات.
وبسبب هذا الاختلاف في المفاهيم تداخلت التصورات وبات من الصعب تحليل الإشارات المتعارضة التي تصدر تباعاً من تلك التصريحات المتضاربة بشأن هطول المطر في المنطقة العربية/ الإسلامية. هناك مشكلة. والمشكلة ليس في التخلف الذي ينتشر من إندونيسيا إلى إسبانيا وإنما في الجنون الذي يسيطر على «البيت الأبيض»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1483 - الأربعاء 27 سبتمبر 2006م الموافق 04 رمضان 1427هـ