البصل خضرة مغذية جدا وخصوصاً للدم. هذا ما يؤكده الطب. يؤكل البصل نيئا ومشويا ومقليا وهو من أسس المطبخ الشرقي. ماذا يحصل عندما يجري تقشير البصل وقبل التلذذ بطعمه الذي لا غنى عنه؟ طبعا تسال الدموع وقد يصاب المرء بحرقة في العيون لكن لا غنى عن البصل.
مثل الحقيقة في كتاب الأديب الألماني غونتر غراس الفائز بجائزة نوبل في الأدب في العام 1999 والذي أثار كتابه الجديد(عند تقشير البصل) مناقشات واسعة داخل ألمانيا وخارجها. أراد غراس المولود في السادس عشر من أكتوبر/ تشرين الأول العام 1927 بمدينة دانسيغ التي تتبع اليوم لبولندا أن يتضمن كتابه الذي نشر وهو في سن الثامنة والسبعين من العمر، أسرارا غير معروفة حتى اليوم عن حياته وقد فعل ذلك. ولأنه باح بالحقيقة فقد وفر لخصومه سكاكين كي يضربوا القيصر غراس لكن، كما يقول أهل لبنان: يا جبل ما يهزك ريح.
في مطلع سبتمبر/ أيلول وضعت المكتبات في ألمانيا الكتاب للبيع وشهد إقبالا واسعا لعدة أسباب: منها أن غراس الذي لم يخف مرة ميوله السياسية للحزب الاشتراكي الديمقراطي المشارك في الائتلاف الحاكم في ألمانيا، هو أديب الألمان، يعكس في كتاباته الأدب الألماني المعاصر. ثم ان كتبه تثير نقاشات وقد أفلح غراس في ذلك تماما حين كشف في مقابلة أجرتها معه صحيفة «فرانكفورتر ألجماينه» أنه كان ينتمي لقوات العاصفة في صباه وكان يبلغ 17 سنة من العمر قبل عام على نهاية الحرب العالمية الثانية التي، كما نعرف انتهت بهزيمة ألمانيا النازية حين أعلنت استسلامها في الثامن من مايو/ أيار العام 1945 وما نتج عن ذلك من تبعات مثل تقسيم ألمانيا إلى شطرين أحدهما محسوب على الولايات المتحدة والثاني على الاتحاد السوفييتي.
ونشرت الصحيفة اعترافات غراس في صدر صفحتها الأولى وفي اليوم نفسه كان غراس مادة غنية لوسائل الإعلام الألمانية والعالمية على رغم أن ما ذكره خلال المقابلة سبق وأن ذكره أمام أصدقاء في حفل شواء حين قال هذا الأديب أنه كان انتسب في مقتبل العمر لقوات العاصفة لفترة قصيرة وأن الصدفة وحدها لعبت دورا كي ينتمي لهذه الفرقة التابعة للوحدات النازية الخاصة أس أس التي كان هتلر يعتمد كثيرا عليها. فقد كان يرغب في الانتساب إلى فرقة المدرعات لكن وحدات أس أس كانت تعمل بطريقة أو بأخرى للحصول على أعضاء جدد خاصة في الفترة الأخيرة من الحرب وحين كانت خسائر الجيش الألماني عالية جدا. لكن غراس لم يتحدث علنا عن ذلك، ولم يسئل عن ماضيه لكن هذا السر ظل يلازمه. حتى من عرفوا بصيادي النازيين لم يتعرضوا لغراس ففي عقد الثمانينات كان معروفا عنه تأييده لـ «إسرائيل» وفي عقد التسعينات فقط التفت غراس للجانب العربي فزار عض بلدانه وبقيت هذه الزيارات وخصوصاً التي قام بها إلى اليمن في وجدانه نظرا لأصول الضيافة التي لقيها في البلدان العربية القليلة التي زارها بعد فوزه بجائزة نوبل. وفي مقابلة أجرتها معه مجلة «دير شبيغل» هذا العام قال غراس أنه مع اليهود وليس مع الصهاينة. وهكذا كان الأديب الألماني يشير بصورة أو بأخرى إلى قرار الأمم المتحدة الذي أدان الصهيونية معتبرا إياها عنصرية.
ما فاتح به غراس الرأي العام ليس أكثر من اعتراف متأخر لألماني في مثل سنه. فقد تحولت ألمانيا في عهد النازية إلى أكبر ثكنة عسكرية حتى أن هتلر جعل الصبية الألمان يشاركون في الحرب بعد أن أنشأ النازيون تنظيما خاصا بهم يعرف باسم تنظيم شباب هتلر. حين كان غراس في الخامسة عشرة من العمر انتسب لهذا التنظيم لكنه ليس الوحيد من مشاهير الألمان لاحقا الذين انتسبوا لهذا التنظيم. بعد ساعات قليلة على اختيار جوزف راتسينجر ليخلف البابا يوحنا بولص الثاني بعد وفاته وأصبح يحمل اسم البابا بنيديكت السادس عشر. منذ أيام نعرف رأي هذا البابا بالإسلام وبخاتم الأنبياء محمد (ص).
غونتر غراس من مواليد السادس عشر من أكتوبر في مدينة دانسيغ. دفع به طيش الشباب في العام 1944 إلى المشاركة في الحرب العالمية الثانية وجرح ثم وقع في أسر القوات الأميركية وأطلق سراحه في العام نفسه. درس غراس فن النحت بمعهد التدريب المهني في مدينة دوسلدورف لمدة سنتين ثم أتم دراسته الجامعية في مجمع الفنون في دوسلدورف وجامعة برلين وحصل على شهادة جامعية في فن الرسم والنحت الدقيق. بعد ذلك واصل دراسته في جامعة برلين للفنون حتى العام 1956. عاش في فرنسا حتى العام 1959 وعاد إلى برلين ليعيش فيها حتى العام 1972 ويعيش اليوم بالقرب من مدينة لوبيك حيث فيها بيت غراس الثقافي.
صنع غراس شهرته من خلال تصوير فيلم عن قصته الشهيرة «الطبل والصفيح» الذي يروي فيه عن أوسكار ذلك الطفل المعوق الذي يرفض النمو طوعا ليكون شاهداً على تاريخ لن ينسى. هذا الطفل الذي أراد له غراس ألا يكبر في إدراكه الحسي للأشياء فظلت مداركه مدارك ولد يافع غير مكتمل النضوج، بعدما شاهد وهو داخل مبنى قديماً يمارس فيه هواية الضرب على الطبل، من أحد الثقوب، ثلة من الجنود يقتلون بعض الناس. بحديثه عن معاناة أوسكار كان غونتر غراس أول كاتب ألماني كتب عن ذكريات الحرب العالمية الثانية باللغة الألمانية لينال بذلك شهرة عالمية. تدور هذه الرواية في معظمها في مسقط رأس الكاتب بمدينة دانسيغ.
وقد ترجمت الرواية إلى لغات عالمية كثيرة منها اللغة العربية. هذه الرواية جزء من ثلاثية غراس المعروفة بثلاثية دانسيغ وتضم أيضا الروايتين (القط والفأر) التي صدرت في العام 193 و(سنوات الكلاب) الصادرة في العام نفسه. تميز غراس في ثلاثيته بلغة مليئة بالصور والرموز. من رواياته الشهيرة «منويتي» للعام 1999 و«مشية السرطان» 2002. ارتبط غونتر غراس بقوة بالعمل السياسي حين تعرف على فيلي برانت وكان يشغل منصب عمدة برلين الحاكم وتقرب خلال السنوات اللاحقة من الحزب الاشتراكي الديمقراطي الذي ينتمي إليه برانت وقام بدعم الحملات الانتخابية لصالح هذا الحزب على رغم عدم انتمائه للحزب الاشتراكي إلا في العامين 1982 و1983 فقط. انتقد غراس حرب بوش ضد العراق العام 2003 الأمر الذي ساهم في تقارب بينه وبين المستشار الألماني جيرهارد شرودر. شجعت هذه العلاقة قيام غراس بكتابة عدة مقالات ناقدة لسياسة الحروب الوقائية الأميركية ولاسيما حرب العراق وقال ما يجول في نفس غالبية الألمان: هل هي هذه الولايات المتحدة التي نحتفظ نحن الألمان بالذات بذكرى طيبة نحوها ولأسباب عدة منها أنها ساعدتنا في التخلص من الدكتاتورية النازية ومولت مشروع إعادة تعمير ألمانيا وساعدتها في تحقيق المعجزة الاقتصادية.
كما كان ينظر لهتلر أنه خطر على السلام العالمي يرى كثير من ألمان بوش خطرا على السلام العالمي. غراس الذي عبر دائما عن فكر رجل الشارع في بلده وصف صورة الولايات المتحدة اليوم بأنها أصبحت مشوهة. في الأيام الماضية قام غراس بقراءة أجزاء من كتابه الجديد في برلين وتوقف عند الصفحات التي اختارها وكشف فيها عن ظلال سوداء في حياته لكن أديباً نقل واقع ألمانيا من حقه أن يكون نفسه جزءا من هذا الواقع. الفرق أنه حصل على الشجاعة ليكشف هذا الاعتراف في خريف حياته في كتاب جديد بيعت طبعته الأولى على رغم أنه تحدث عن هذه الظلال أمام أصدقاء. بينما كشف غراس علنا عن ماضيه لايزال ماضي غيره من الألمان مغلفا بستار أسود. وقد خرج منتصرا على خصومه الذين حاولوا النيل منه انتقاما لمواقفه السياسية وخصوصاً كما يقول مثل شعبي لبناني: «يا جبل ما يهزك ريح»
العدد 1483 - الأربعاء 27 سبتمبر 2006م الموافق 04 رمضان 1427هـ