وحده الطبري كان يعتقد أن الزندقة تعتبر «تهمة تم استعمالها في تصفية الخصوم السياسيين»، آما الآخرون فأجمعوا أنها ما يساوي نقيض كل فاضل من الأشياء، بالتالي هي نقيض الدين/ الأخلاق/... ضع عزيزي القارئ ما تشتهي من فضائل، محال أن تخطئ الهدف.
للزندقة حضورها في الديني المطلق، تتمثل في المسيحية واليهودية والبوذية بمصطلح رديف يدعي «الفوضوية»، تهمة تقف في زاوية أن لكل أيديولوجيا «تحريفية» خاصة، تصل فيما تصل حد التحريفية/ الفوضوية/ وتقارب أشهر تهم التاريخ الديني رواجا في التراث الإنساني «الزندقة».
أول نص إسلامي رسمي عن الزندقة كان وصية الخليفة المهدي لابنه الهادي بشأن الزندقة إذ تنص الوصية على «يـا بني فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش والزهد في الدنيا والعمل للاخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم ومس الماء الطهور، وترك قل الهوام تحرجا وتحوبا، ثم تخرجها من هذه إلى عبادة اثنين: احدهما النور، والآخر الظلمة، (...) فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى اللّه لا شريك له، فاني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الاثنين».
كثر كانوا تحت طائلة الزندقة، واختلف الرواة فيهم، أشهرهم كاتب «الابتداء والإعادة» و«الأسماء والأحكام»، ابن الراوندي، يقولون عنه «سرعان ما بدأ رحلته في التشكيك في عقيدة التوحيد، وفي يوم المعاد، وفي العدل وصفات الله والانتقادات الموجهة إلى الشريعة الإسلامية والفرائض وإنكار وجود الله وأزليته».
يقول ابن الرواندي: «ليس بواجب على الله أن يرسل الرسل أو يبعث أحداً من خلقه ليكون نبيه ويرشد الناس إلى الصواب والرشد، لأن في قدرة الله وعلمه أن يجعل الإنسان يرقى ويمضي إلى رشده وصلاحه بطبعه». ويرى أن «تصورات الإنسان عن الخالق والمبدأ محاطة بالأوهام والأساطير، لأن فكر الإنسان يعجز عن إدراك الخالق أو معرفة أوصافه». سر الموت لدى أبن الراوندي لا سبيل إلى معرفته، فالإنسان منذ ما خلق وهو يبحث عن سر الموت لكي يحول دون وقوعه، فأخفق حتى الآن في هذا السعي، وقد لا يوفق في الاهتداء إلى سره إلى الأبد والناس جميعاً لا يعلمون كيف يموتون، ولو جرب الإنسان الموت ما أدركه أو عرفه حق المعرفة، وإن معاينة موت الآخرين لا تعلم الإنسان شيئاً عن أسرار الموت.
لم يكن النص الإسلامي بعيدا عن المجادلة مع الزنادقة أو المتهمين بها على أقل تقدير، فلدينا كتاب «المجالس المؤيدية» للمؤيد في الدين هبة الله بن عمران الشيرازي، الذي يعتبر أحد المصادر الموثقة في الرد على أبن الراوندي في ما كتب، وفيما يلي نماذج للرد على مناقشات ابن الراوندي، يقول المؤيد الشيرازي «بالنسبة إلى كفاية العقل بإدراك الصالح والطالح وعدم الحاجة للأنبياء، إن وظيفة العقل هو إبصار الأمور الباطنة والغائبة عن الحس مثلما الحواس مسئولة عن مبصرات الدنيا، فالبصر على سبيل المثال لا يقوم بوظيفة الرؤية من دون تحفيز خارجي كضوء الشمس أو القمر والعقل كذلك لا يستطيع الإدراك من دون محفز خارجي مثله مثل امتلاك الإنسان اللسان والحنجرة والشفتين التي بوحدها مع وجود العقل ليس كافياً للبدء بعملية النطق».
يعتقد أن اتهام أبن المقفع - صاحب كليلة ودمنة - بالزندقة كان شأناً سياسياً صرفاً. البعض الآخر يرى «في بعض من كتاباته، وخصوصاً في باب برزويه من كتاب كليلة ودمنة مؤشرات على الإلحاد حيث يقول «وجدت الأديان والملل كثيرة من أقوام ورثوها عن آبائهم وآخرين مكرهين عليها وآخرون يبتغون بها الدنيا ومنزلتها، فرأيت أن أواظب علماء كل ملة لعلي اعرف بذلك الحق من الباطل ففعلت ذلك وسالت ونظرت فلم أجد من أولئك أحدا إلا يزيد في مدح دينه وذم دين من خالفه ولم أجد عند احد منهم عدلا وصدقا يعرفها ذو العقل ويرضى بها». ويقول الجاحظ في وصف ابن المقفع «قد يكون الرجل يحسن الصنف والصنفين من العلم فيظن بنفسه عند ذلك كالذي اعترى الخليل بن أحمد بعد إحسانه في النحو والعروض إن ادعى العلم بالكلام وأوزان الأغاني فخرج من الجهل إلى مقدار لا يبلغه إلا بخذلان الله تعالى».
كانت الزندقة ومازالت تهمة تاريخية لم تقتصر على الخارجين عن الدين فحسب، فالكثير من المذاهب الإسلامية كانت لا تصف المذاهب الأخرى إلا بالمتزندقة. كان توظيف الزندقة في الاختلافات التأويلية للنص الديني رائجاً، وخصوصاً في عهد العباسيين على الصعيد الديني، وبما يتصل بالسياسي أيضاً، يقول الأصمعي في ذكر البرامكة:
إذا ذكر الشرك في مجلسٍ أضاءت وجوه بني برمـــك
وإذا تليت عندهم آيـــــــــة أتــوا بالأحاديث عن مزدك
ومزدك هو رأس المزدكية (الشيوعية الأولى) قبل ماركس ولينين. ومن الشعراء الذين قتلوا على الزندقة بشار بن برد ، إذ اتهم بالزندقة في بعض أشعاره.
«تم إلقاء القبض على معظمهم وأمر الخليفة الذي كان حينئذ في دابق بقتل بعضهم وتمزيق كتبهم وتم تخصيص قضاة لهذا الغرض وكان القضاة في العادة يطالبهم بالرجوع عن الزندقة وللتأكيد من أنهم فعلا خرجوا عن الزندقة كانوا يطالبون المتهم بالبصق على صورة ماني بن فتك وان يذبح حيوانا تحرمه المانوية».
أبوالفرج الاصفهاني «كتاب الأغاني»
- الزندقة عبارة عن «مصطلح عام يطلق على حالات عدة، يعتقد أنها أطلقت تأريخياً لأول مرة من قبل المسلمين لوصف أتباع الديانات المانوية او الثنوية والذين يعتقدون بوجود قوتين أزليتين في العالم وهما النور والظلام» (ويكيبيديا) وتشيف لهم الموسوعة «الملحدين وأصحاب البدع وكل من يحيا ما اعتبره المسلمون حياة المجون من الشعراء والكتاب».
- يعتقد البعض أن أصل كلمة زنديق هي الكلمة الفارسية «زنده كَرْد» والتي تعني إبطان الكفر والإلحاد. يقول ابن تيمية عن لفظ الزندقة: «هو لفظ أعجمي معرَّب، أُخذ من كلام الفرس بعد ظهور الإسلام، وعُرب». ويذكر بعض المؤرخين أن زرادشت أتى بكتاب «البستاه»، فـمـن أعـرض عـنه، وعدل إلى التأويل الذي هو الزند قالوا الزندي، فلما جاءت العرب أخذت هذا المعنى مـن الفـرس، وقالوا زنديق وعربوه.
- يقول الحافظ ابن حجر: «ثم أُطلق الاسم (الزنديق) على كل من أسرَّ الكفر وأظهر الإسلام، حتى قــال مــالـك: الـزنـدقـة ما كــان عليه المنافقون، وكذلك وأطلقت جماعة من فقهاء الشافعية وغيرهم: أن الزنديق هــو الـذي يـسـرّ الإسلام ويخفي الكفر». بعض السلفيين يطلق هذه الكلمة على الجهمية، كما يفعل ذلك الإمام عثمان بن سعيد الدارِمي (ت 282 هـ) في كتابه «الرد على الجهيمية»، وفي كتابه «النقض على بشر المريسي»
- يُرمى صاحب المجون والفحش بالزندقة.
- يقول الحافظ ابن حجر عـن أصل الزنادقة: «أصل الزنادقة أتباع دَيْصان، ثم مانيّ ثم مزدَك وحاصل مقالتهم أن الـنـور والظـلـمة قديمان، وأنهما امتزجا فحدث العالم كله منهما، فمن كان من أهل الشر فهو من الظـلـمة، ومن كان من أهل الخير فهو من النور».
- يقول الجاحظ إن الزندقة فشت في النصارى فقال: «ودينهم يضاهي الزندقة، ويناسب في بعض الوجوه قول الدهرية، وهم من أسـبـاب كــل حـيـرة وشبهة. والدليل على ذلك أنَّا لم نر أهل ملة قط أكثر زندقة من النصارى، ولا أكثر متحيراً أو مترنحاً منهم».
ابن النديم «كتاب الفهرست» يصنفهم في 3 أنواع:
1- طائفة المانويين الذين كانوا يؤمنون بالمانوية عن رغبة دينية صادقة واستنادا الى ابن النديم كان معظم هذه الطائفة من «الموالي الفرس» ومنهم صالح بن عبد القدوس وعبدالكريم بن ابي العوجاء.
2- طائفة المتكلمين ويقصد بهم المشككين الذين كانوا يخوضون المناقشات الدينية ليجدوا «السلوى» بحسب تعبير ابن النديم ومنهم ابن الراوندي وأبوعيسى الوراق.
3- طائفة الأدباء ومنهم بشار بن برد وأبونواس وأبوالعتاهية.
الإمام الملطي:
الزنادقة أول الطوائف افتراقاً، ثم ذكر فرق الزنادقة فقال: أول من افترق من هذه المذاهب: الزنادقة، وهم:
1- المعطلة. 2- المانوية. 3- المزدكية. 4- الهبدكية. 5- الروحان
العدد 1483 - الأربعاء 27 سبتمبر 2006م الموافق 04 رمضان 1427هـ