العدد 1482 - الثلثاء 26 سبتمبر 2006م الموافق 03 رمضان 1427هـ

«خطوط زرق» لبنانية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

توقع مصدر في الأمم المتحدة أن تستكمل القوات الإسرائيلية انسحابها من جنوب لبنان في نهاية الأسبوع الجاري. وفي حال أقدمت تل أبيب على هذه الخطوة تكون حكومة إيهود أولمرت عادت إلى حدود «الخط الأزرق» الذي رسمته القوات الدولية بعد إنجاز عملية التحرير في العام 2000.

الانسحاب إلى «الخط الأزرق» لا ينهي المشكلة. فهناك الكثير من النقاط لاتزال عالقة. والحرب التي أعلنت على لبنان ودامت نحو 34 يوماً لم تغير من واقع الأمر سوى تلك النتائج والتداعيات والارتدادات وغير ذلك يمكن وضعه تحت سقف القرار الدولي 1701.

«إسرائيل» تدّعي من جانبها أنها حققت بعض أهدافها من العدوان وتركت البعض الآخر للقرار الدولي وللداخل اللبناني. والأهداف التي تدّعي تل أبيب أنها انجزتها تختصرها تصريحات المسئولين وبيان حكومة أولمرت بالنقاط الآتية:

أولاً: تدمير البنى التحتية للدولة اللبنانية وتفكيك الأبنية السكانية للمقاومة.

ثانياً: انتشار الجيش اللبناني وصولاً إلى الحدود الدولية وتعزيز القوات الدولية (يونيقل) عدداً وعدة.

ثالثاً: إبعاد قوات حزب الله من الحدود إلى خارج «الحزام الأمني» الممتد إلى جنوب نهر الليطاني.

رابعاً: تأمين الاستقرار لسكان المستوطنات والمستعمرات في شمال فلسطين المحتلة من المجال الجوي لصواريخ حزب الله.

هذه النقاط وغيرها تدّعي تل أبيب أنها انجزتها خلال عدوانها الذي تمثل في اجتياحها الجوي لكل الأراضي اللبنانية. ولكنها تتهرب من الإجابة عن تلك النقاط التي فشلت في تحقيقها، مثل عدم قدرتها على تحقيق اختراق ميداني سوى تلك الكيلومترات على شريط ضيق في منطقة القرى الأمامية، فشلها في منع تساقط الصواريخ حتى لحظة وقف إطلاق النار في 14 أغسطس/ آب، اعترافها بعجزها عن تدمير حزب الله أو سحب سلاحه. وغيرها من نقاط تتهرب حكومة أولمرت في التطرق إليها خوفاً من اتساع نطاق التحقيق الذي بدأت اللجنة المكلفة بإجرائه مع المسئولين العسكريين والسياسيين الإسرائيليين.

إذاً في نهاية الأسبوع الجاري ستنهي «إسرائيل» انسحابها من لبنان مخلفة الدمار الذي لحق بالكثير من المناطق وتحديداً تلك التي تقع على الحدود الدولية. وهذا الدمار بات على الحكومة اللبنانية بالتعاون مع الدول العربية والدول المانحة العمل على إعادة إعماره في الشهور والسنوات المقبلة.

إلى تحطيم البنى التحتية لاتزال النقاط السابقة واردة على جدول الحل كما أشار نص القرار 1701، منها مزارع شبعا ومرتفعات كفرشوبا، الأسرى، خريطة الالغام، العودة إلى اتفاق الهدنة وغيرها من نقاط تشكل بؤر توتر بين الجانبين في حال لم تنجح القوى المعنية في معالجتها.

هذا على الجانب الإسرائيلي أو اللبناني - الإسرائيلي المشترك على الحدود الدولية. أما على الجانب اللبناني وتحديداً الداخلي فتبدو الأمور مختلفة إذا أخذت النقاط من الزاوية المضادة. فالوضع اللبناني ليس أفضل وخصوصاً في تلك الجوانب المتعلقة بالاضرار المباشرة. والاضرار ليست بالضرورة تلك المتصلة بحجم الدمار الذي لحق بالقرى والجسور والمدارس والمؤسسات والمصانع والانفاق والمزارع ومصادر الرزق والعيش واتساع نطاق النزوح أو الهجرة والنزف السكاني، وانما أيضاً تلك الاضرار السياسية التي يمكن رصدها من خلال الانفعالات والتشنجات والاستقطابات الأهلية.

لبنان الآن دخل في منعطف كبير لم يعد بإمكان ترميم تلك العلاقات بين سكانه من دون قراءة جديدة للواقع تعيد النظر بالكثير من المسلمات التي شكلت تقليدياً أساسات نهوض الكيان السياسي للدولة. فالعدوان الذي ارتكبته «إسرائيل» فتح البلاد على مأزق يهدد وجوده كإطار جغرافي يحتوي جماعاته الأهلية. فالبلد عاد ساحة مفتوحة للتجاذبات الدولية والإقليمية تحت سقف القرار 1701. وهذا السقف يمكن رفعه وخفضه بحسب التفاسير التي يمكن أن تعطى لبنوده. ورفع السقف أو خفضه يشكل مجموعة ضغوط على الدولة والمقاومة ستزيد من احتمالات تطور توترها الداخلي وصولاً إلى «الخطوط الزرق» التي ترسم الفواصل والحدود بين المناطق والطوائف والمذاهب اللبنانية.

خطوط زرق داخلية

بين لبنان و«إسرائيل» خط أزرق واحد واضح المعالم إلى حد كبير وتشرف قوات دولية على حمايته. أما الخطوط الزرق الداخلية التي تفصل المناطق اللبنانية فهي مفتوحة على احتمالات عدة منها إمكان اختراقها أو تجاوزها حين تصل الأمور إلى مستوى لا تستطيع القوى المحلية على معالجته بتفاهمات تتناسب مع مصالحها الجزئية.

«الخطوط الزرق اللبنانية» متعرجة داخلياً وأحياناً يتشابك فيها الطائفي بالسياسي، والسياسي بالمذهبي، والمذهبي بالمناطقي، والمناطقي بالشخصي أو بتلك التوازنات في توزيع الحصص والمغانم والمكاسب لهذا الفريق أو ذاك الشطر. وهذا النوع من التداخل دقيق الخطوط ويصل أحياناً إلى درجة التبخر الأمر الذي يؤدي إلى نوع من الحساسيات يرفع درجة التوتر بسبب تعيين هذا الموظف في موقعه أو ازاحة هذا الموظف من منصبه. وحين تصل الأمور في حكومة ما إلى هذا الدرك من الانحطاط في السياسة يصبح من المستحيل المراهنة على قيام دولة أو الطلب من هكذا دولة القيام بمهمات كبيرة مثل التحرير أو الإعمار أو غيرها من أمور.

كثرة «الخطوط الزرق» في الداخل اللبناني شكلت وتشكل واحدة من العناصر التي عطلت إمكانات التقدم بالكيان السياسي وتطويره من مكان إلى آخر. وهذا الموضوع ليس جديداً ولكنه تضخم في الآونة الأخيرة بسبب نمو ذاك الخلل بين عجز السلطة عن فرض سيادتها على السكان مقابل نهوض تكتلات سياسية (طائفية في جوهرها) تمنع على الدولة إمكانات تحملها مسئوليتها الدستورية.

لبنان الآن يواجه مشكلات جديدة اضيفت إلى أزماته السابقة التي كانت موجودة قبل الحرب وتفاقمت بعدها. فهناك نقاط تتصل بالديون، والانماء، وتطوير البنى التحتية، وتفعيل المؤسسات الحيوية (الكهرباء مثلاً) والآن هناك نقاط مضافة تتصل بإعمار ما هدمته الحرب، واحتواء النتائج المترتبة على الخراب وصولاً إلى استكشاف الطرق التي تحد من سلبيات التداعيات التي خلفتها ارتدادات الحرب على التوازنات السياسية.

العدوان على لبنان حطم بناه التحتية لكنه أيضاً شكل قوة ضغط على ابنيته السكانية ودفع الأطراف المحلية إلى رفع شعارات تتصل بالتوازنات التي استقرت عليها التحالفات قبل الحرب. فمنذ 15 أغسطس بدأت الأطياف اللبنانية (الطوائف) تنزلق سياسياً نحو تجاوز «الخطوط الزرق». وهذا الانزلاق يعتبر شكلاً من أشكال ارتدادات زلزال 12 يوليو/ تموز. فالزلزال الحربي أقفل الحدود (انتشار الجيش والقوات الدولية) على الخط الأزرق وأسهم في توليد خطابات محلية يغلب عليها الطابع الداخلي بهدف إعادة إنتاج هيئة سياسية للدولة تتناسب مع واقع الانشطارات الاجتماعية والطوائفية التي أنتجها العدوان. فالكلام عن التصدي للعدو الإسرائيلي لايزال اللغة السائدة لكنه عملياً انكفأ إلى الداخل بسبب مفاعيل القرار الدولي 1701. ولأن العدوان زاد من الاحتقان ولم يعد بالإمكان تصريفه خارج الحدود فإن التوقعات ترجح أن يتم تنفيسه في داخل البلاد تحت ملفات مختلفة منها ما يتصل بالسلاح ومنها ما يتصل بالعمران وإعادة بناء ما دمرته الحرب ومنها أيضاً يتصل بجوانب قديمة/ جديدة تتعلق بمشكلات مزمنه كالدولة القوية، وحكومة الوحدة الوطنية، وقانون جديد للانتخابات.

هذه الملفات القديمة/ الجديدة تعتبر في جوهرها ارتدادات سياسية لذاك الزلزال الإسرائيلي الذي تم تعليقه مؤقتاً بانتظار ما ستسفر عنه حركة الاتصالات الدبلوماسية على مختلف المستويات الدولية والعربية والإقليمية والمحلية. وحتى تتوضح ملامح الاتصالات تبدو الأمور الداخلية مستمرة في انزلاقها التلقائي (العفوي) أحياناً والمقصود أحياناً أخرى إلى حدود «الخطوط الزرق» اللبنانية... وهي خطوط يتداخل معظمها السياسي بالطائفي.

الناطق الدولي باسم الأمم المتحدة أعلن عن احتمال انسحاب القوات الإسرائيلية إلى «الخط الأزرق» في نهاية الأسبوع الجاري. وحين يتم هذا الأمر وتقفل الحدود مع فلسطين المحتلة فإن الاحتقان لا يستبعد أن ينفتح مجدداً في الداخل. والانفتاح هذه المرة يرجح أن يكون من الصنف الذي يتناسب مع صورة الواقع الذي ظهر محطماً بعد الحرب. فالحرب رسمت الخطوط الدولية على «الخط الأزرق» مع «إسرائيل»، كذلك تبدو أنها أسهمت في ترسيم «خطوط زرق» داخلية تنتظر اللحظة المناسبة لاختراقها كما جرى الأمر في 12 يوليو

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1482 - الثلثاء 26 سبتمبر 2006م الموافق 03 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً