العدد 1481 - الإثنين 25 سبتمبر 2006م الموافق 02 رمضان 1427هـ

هل صار الوطن كعكة؟ (1 - 2)

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

ما الذي تغير ليتحول الوطن من قطعة من القلب إلى قطعة من الكعكة يجري التنافس عليها؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال لابد من التمهيد بشيء من التفصيل عن تاريخ فكرة الوطن وتحولاتها، لأني أتصور أن هذا التاريخ ينطوي على تحول كبير جرى في العصر الحديث وكان من نتائجه استبدال فكرة الوطن - الكعكة بفكرة الوطن - القلب.

وأتذكر أني كتبت مقالا قبل سنتين أو أكثر عن انقراض فكرة الوطن في العصر الحديث، وكان منطلقي في ذلك هو مقولة المفكر الألماني ثيودور أدورنو حين قال: «أصبح الوطن شيئاً من الماضي»، فهذا العصر - كما قال إدوارد سعيد في أكثر من مكان - هو عصر المنفيين والمشردين واللاجئين والمهجرين بامتياز.

لقد كانت فكرة الوطن - لدى أدورنو وسعيد - قرينة الانغلاق في هوية ثابتة ومستقرة، وهي حال لا تطاق من قبلهما لأنها تضحي بوجودهما كأفراد من أجل ثبات الهوية الجماعية واستقرارها. وهو ما عبر عنه أدورنو حين قال: «إن مأزق الحياة الخاصة ينعكس اليوم في المكان، فالبيت بالمعنى التقليدي يعد الآن مستحيلاً لأن المساكن التقليدية التي نشأنا فيها أصبحت الآن لا تطاق. كل إحساس بالراحة ندفع ثمنه وكل أثر للمأوى ندفع ثمنه».

وكان نيتشه يقول إنه «محظوظ لأنه لا يمتلك منزلاً»، وهو قول تمثل به إدوارد سعيد حين اختار ألا يكون مالكاً لسكنه وأن يكتفي باستئجاره فقط. وفي العام 2000 قال سعيد لصديقه دانييل بارونبوام: «مع مرور الزمن توصلت إلى أن هذه الفكرة عن البيت قد تم تقديرها بشكل مبالغ فيه... إن لفكرة )الوطن) لم تعد تهمني كثيراً. إنا التيهان هو ما أفكر، حقيقة».

بالنسبة إلى هؤلاء المنفيين الكبار فإن فكرة الوطن - البيت أصبحت فكرة لا تطاق وشيئاً من الماضي، ولكن بالنسبة إلى من يعيش مستقراً في وطنه كحالنا فإن فكرة الوطن - البيت فكرة ضرورية ولا فكاك لنا منها. وهي غالباً ما تقترن بمعاني الشوق والحنين والعاطفة المشبوبة لمحل الولادة والإقامة الأولى. ولهذا اقترنت فكرة الوطن - البيت بفكرة أخرى وهي فكرة الوطن - القلب، أي الوطن بما هو قطعة من القلب، فإذا كنا نسكن في الوطن كما لو كان بيتنا فإن الوطن يسكن في القلب كما لو كان بيته.

وهذا ما عناه أبو الطيب المتنبي في قوله الفذ الذي كان أبو العلاء المعري يقول فيه: «لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قصيدته: (لك يا منازل في القلوب منازل) لكفاه فضلاً».

كان الوطن قطعة من القلب، وكانت العرب، كما ينقل الجاحظ، «إذا غزت وسافرت حملت معها من تربة بلدها رملاً وعفراً تستنشقه عند نزلة أو زكام أو صداع». فكيف تبدلت الأحوال حتى صار الوطن اليوم، قطعة من الكعكة في البطن، وشيئاً يغري بالتنافس بين الجميع، وتحاسد الجميع ضد الجميع؟

ترجع حيثيات هذا التحول إلى العصر الحديث وما طرأ فيه من تغيرات سياسية كبرى كان نتيجتها ترسيم حدود الأقطار، وظهور مفهوم جديد للوطن كبؤرة للهوية والولاء السياسي. وتزامن هذا مع ظهور مجال جديد للعلاقات السياسية داخل الوطن اسمه المواطنة، والمؤسف أننا في بلدان قادرة على تحويل كل شيء إيجابي إلى نهاية كارثية. وهذا ما حصل مع مفهوم المواطنة.

والوطن والمواطن والمواطنة من المفردات الجديدة على المعجم السياسي العربي. فصيغة «مواطن» و«مواطنة» لم تكن معروفة ومتداولة في القواميس العربية القديمة، وأما الوطن فلم يكن ذا مدلول سياسي كما هو في الاستخدام الحديث، ولم يكن يعني غير الدلالة الرومانسية المأخوذة بالحنين إلى مسقط الرأس ومحل السكنى أو الإقامة.

كانت المواطنة في التاريخ العربي خارج دائرة التفكير، فهي تقع في خانة «اللامفكر فيه». ويبدو أنه لم تكن هناك حاجة ملحة لمثل هذا التفكير أصلاً؛ والسبب أن المواطنة نوع مستحدث من العلاقات السياسية، ولا ينطوي هذا النوع بالضرورة على انتماء لا لجماعة الأمة ولا لـ «الوطن» الذي انعجن به المرء وصار قطعة من قلبه كما في الفكرة الرومانسية السابقة، بل هي تعبير عن نمط جديد من وجود الفرد ضمن صيغة سياسية مستحدثة اسمها «الدولة».

وبحسب برنارد لويس فإن الاستخدام الحديث للوطن والمواطن في المعجم السياسي العربي يرجع إلى السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر، وهو يعزو ذلك إلى تأثير أجنبي وفرنسي خصوصاً. فالدلالة السياسية في هذه المفردات كانت خارج التجربة السياسية الإسلامية، وعندما ترجمت الكتابات السياسية اليونانية القديمة إلى اللغة العربية في العصور الوسطى كان هناك مقابل لكلمة city (مدينة)، ولكن لم يكن هناك مقابل للكلمة المشتقة منها: citizen. وعلى هذا ترجمت الكلمة اليونانية polis إلى مدينة في حين بقيت polits من دون مقابل حقيقي. ثم جرت العادة باستخدام «مدني» كمقابل لها. وصارت عبارة أرسطو الشهيرة: «الإنسان حيوان سياسي بالطبع» تترجم في كتابات العرب بـ:«الإنسان حيوان مدني بالطبع». إلا أن المدلول العمراني الشائع لـ«المدينة» كمقابل للقرية والريف قد فوت على الثقافة العربية إدراك المدلول السياسي للمدينة بما هي تجمع للمواطنين وبما هم أفراد أحرار يعيشون ضمن نظام سياسي عرف في اليونان القديمة بالدولة - المدينة.

وفي العصر الحديث دعت الحاجة إلى استخدام الوطن والمواطن والمواطنة بمدلولاتها السياسية الجديدة، واستدعى ذلك تغيير المجال السياسي برمته. وهنا حصل الافتراق بين المجال السياسي القديم والمجال السياسي الجديد. فالمواطنة في المعجم السياسي الجديد قائمة على الحرية والعدل والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، وهي في الوقت ذاته مجال مفتوح ضمن حدود واشتراطات محددة. وهنا يفترق مفهوم الوطن بالمعنى القديم عن مفهوم الدولة والمواطنة والجنسية، فإذا كان الوطن هو مكان الولادة ومحل السكنى والإقامة فإن الانتماء إليه محدد ومقصور على من ولد فيه أو سكن وأقام فيه بحيث صار جزءاً منه وتولد في قلبه حبه والحنين إليه عند مغادرته.

وهذه ليست شروطاً كشروط منح الجنسية ومن ثم التمتع بحقوق المواطنة، بل هي محددات لضبط التسمية لا أقل ولا أكثر، وهي محددات نهائية وغير قابلة للانتزاع. بمعنى أن من يحدد من هو البحريني أو الحجازي أو البصري أو الكوفي... هو تلك المحددات السابقة، وهنا لا مجال لوثائق، كوثيقة السفر، تثبت الجنسية لصاحبها، أو تحرمه منها في حال سحبها منه. فالبحريني بحريني لأنه ولد في البحرين أو أقام فيها، وكذا الحال مع الحجازي والعماني والمصري وغيرهم. وهذا ليس انتماء سياسياً بقدر ما هو نسبة للتعريف. وللحديث صلة في الأسبوع المقبل

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1481 - الإثنين 25 سبتمبر 2006م الموافق 02 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً