العدد 1481 - الإثنين 25 سبتمبر 2006م الموافق 02 رمضان 1427هـ

لبنان والمتغيرات السكانية الجديدة (3)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

هل يستطيع لبنان بعد حرب يوليو/ تموز الماضي أن يعيد انتاج صيغة التسوية الطائفية التي ارتكز عليها في تاريخه المعاصر أم أن التطورات نقلت معها متغيرات بات من الصعب على الدولة السيطرة عليها؟

الحشد المليوني الذي جرى في 22 سبتمبر/ أيلول في الضاحية الجنوبية وما أعقبه من ردود فعل متفاوتة وضع لبنان/ الدولة أمام سؤال كبير يتصل بقدرته على السير في سياق تبدو كل طرقاته مقفلة.

وعندما تكون الطرقات مقفلة فمعنى ذلك أن احتمالات التوصل إلى حلول تصبح صعبة، إلا إذا توافرت مجموعة شروط دولية وعربية واقليمية ومحلية تستطيع المساعدة على ترسيم حدود العلاقات الطوائفية وتوضيح معالم صورة تحتاج فعلاً إلى رؤية واقعية.

الواقع اللبناني الآن لا ينسجم كثيراً مع التحديات. وتركيبة الواقع تبدو أنها غير متوافقة على تصورات مشتركة، الدولة مثلاً تحتاج إلى قوة والقوة موجودة في أطر تقع خارج نطاق سيطرتها. والقوة أيضا تحتاج إلى شرعية دولة تعطيها قوة دبلوماسية وإلا تصبح مع الأيام مجرد عنصر يسهم من غير قصد في إضعاف الدولة.

وبسبب هذه الازدواجية أخذت التطورات تتجه نحو نوع من الاستقطابات الأهلية التي لا يستبعد، في حال لم تضبط انفعالاتها، أن تندفع القوى نحو التصادم وتهديد صيغة الكيان السياسي بالتفكك والتشرذم إلى دوائر ضيقة تنسجم حدودها مع ألوان الطوائف والمذاهب.

المسألة اذاً خطيرة وهي ليست مجردة عن تحولات ميدانية حصلت في العقود الخمسة الأخيرة. فما يحصل في لبنان ليس جديداً. والجديد فيه أنه لم يستوعب تلك المتغيرات الديموغرافية (السكانية) التي عدلت التوازنات النسبية للطوائف. فالتوازن العددي مسألة واقعية وهو في النهاية سيفرض شروطه في إطار تطور تسيطر عليه ثقافة تنتمي إلى سيولوجية الاجتماع البشري.

صحيح أن لبنان نهض تقليدياً على نظرية «ائتلاف الطوائف» والتوازن النسبي وعدالة توزيع الحصص لكنه ضمناً كان دائماً تقوده طائفة مركزية (الأكثر عدداً). وهذه القيادة لا تعني بالضرورة الغاء الطوائف الأخرى أو الهيمنة عليها أو التسلط على غيرها. فالقيادة لا تساوي دائماً الهيمنة لكنها قد تعني اعطاء فرصة للطرف الأقوى في المعادلة في صوغ مشروعه ضمن توافقات ديموقراطية.

المسألة إذاً نسبية، والمعادلة النسبية البشرية واقعية في اطارها الديموغرافي (السكاني) والاجتماعي. فهي موجودة بحكم قوة الواقع حتى ان لم يتم الاعتراف بها. وهذا الشيء ليس جديداً على لبنان الذي توارث حكمه امراء اقطاعيون في زمن المماليك وثم العثمانيين. وكان الأمراء دائماً على خلافات محلية وكان الولاة يتدخلون لحسمها سلماً أم حرباً. وأيضاً كان امراء جبل لبنان على اتصالات «خارجية» مع والي الشام أو والي عكا (فلسطين) يستنجدون بهما عند الحاجة ويستخدمونهما لحسم خلافاتهم المحلية على المحاصصة أو تحصيل الضرائب.

لبنان الآن تجاوز هذه المرحلة ولكن قوانين الوحدة والتحالف والتوازن والتضاد لا تزال موجودة تتحكم به بشروط مختلفة ولكنها في النهاية واقعية لأنها تتصل بالجغرافيا والبيئة والمصالح. وكل هذه الأمور تفترض من «اللبنانيين» اخذها في الاعتبار كعناصر واقعية لأنه ليس من الحكمة تجاهلها والابتعاد عنها أو التعامل معها وكأنها عوامل خارجية مفروضة بالقوة على لبنان.

صناعة لبنانية

ما يحصل في لبنان ليس كله صناعة أجنبية تنتجها المحاور الاقليمية والدولية. فهناك الكثير من الأمور من صنع محلي وانتاج لبناني. وجزء كبير من الخلل السياسي ناتج أصلاً عن الاختلال في التوازن الديموغرافي ونمو اختلاف في نسبة تعداد الطوائف السكاني وظهور طائفة مركزية جديدة في الساحة اللبنانية. وهذا التطور في التركيب النسبي للطوائف اللبنانية لا بد له أن ينعكس على التوازنات الداخلية ونظام المحاصصة. وإذا لم يتم التفاهم على الأمر فمن الطبيعي أن يشهد البلد اختلالات خارج نطاق الدولة وذلك لسبب بسيط وهو وجود قوة صاعدة تبحث عن مكان وموقع ودور يتناسب مع نفوذها الميداني (الواقعي).

المشكلة إذاً محلية. لكنها تزداد توتراً بسبب موقع الكيان اللبناني في محيط مضطرب وغير مستقر وتهدده دائماً دولة عدوانية بالخراب والدمار كما حصل في 12 يوليو الماضي. لا شك في أن تاريخ الطوائف والمذاهب في لبنان يحمل في طيات صفحاته اتصالات وعلاقات وحمايات ووصايات واملاءات. فالتاريخ يشهد على حالات مشابهة وأمثلة لا تحصى منذ عهد الأمير فخرالدين المعني ثم الأمير بشير الشهابي وصولاً إلى العصر الحديث. كذلك يقدم التاريخ أمثلة على وجود مشاعر غير متضامنة أو على الأقل غير موحدة في النسبة نفسها بسبب اختلاف الأمزجة والثقافات والرؤى. فالطائفة في تكوينها الواقعي هي مزيج من المذهبية (قانون الأحوال الشخصية) وتشكيل اجتماعي وخصائص ثقافية وكلها في المجموع العام تشكل تلك الشخصية السيكولوجية (النفسية) التي تتحكم في السلوك المشترك والعقل الجمعي وصولاً إلى تحريك المشاعر والمخاوف والشكوك والحيطة والحذر. وهذه الحالات المتعارضة ليست بحاجة إلى اثبات فهي موجودة في كتب التاريخ وفي أمثلة حسية ومعاصرة. وما نشهده الآن في لبنان من توترات بين الطوائف والمذاهب يمكن القياس عليه بعشرات الأمثلة حصلت سابقاً وعلى امتداد أكثر من قرنين.

الموضوع إذاً، ليس غريباً على لبنان، الغريب هو أن يستمر النقاش في مسائل حقوقية وقانونية واتفاقات وتوافقات من دون النظر إلى الواقع الراهن وما يمثله من تحولات ديموغرافية ستترك من دون انتباه أو تخطيط تأثيراتها السيكولوجية على ثقافة البلد ومزاجه. فالكثرة العددية مهما كانت هامشية تولد في الإطار العام متغيرات تؤثر على التوجهات السائدة والموروثة بحكم العادة عن مراحل سابقة.

الطائفة الشيعية في لبنان تعتبر الآن الأكبر عدداً، وهذا ليس سرّاً. فالكل متفق ومتوافق على الأمر. والنمو العددي يعني التفوق النسبي على الطوائف الأخرى التي يتكون منها هذا البلد الصغير والجميل. وبطبيعة الحال (ظروف الأمر الواقع) لابد أن يكون لهذه الزيادة العددية دورها في تغيير المزاج العام في لبنان وتحويل توجهاته والضغط نفسياً على ثقافة مركبة تم تصنيعها من روافد متعددة ومختلفة. وربما وبسبب هذه الثقافة المركبة من شرق وغرب أطلق على لبنان تسميات مختلفة (سويسرا الشرق، مونتي كارلو) بينما عرفت بيروت مراراً بلقب «باريس الشرق».

زمن متغير

هذه التسميات كما يبدو انتهى زمانها وولى عهدها لا بسبب اقلاع اللبنانيين عن التمثل بالآخر والتراجع عن المزج ما بين الموروث والمستورد بل لأن تركيب البلد التكويني تعرض في العقود الأخيرة لمتغيرات كثيرة منها حصول تعديل حقيقي في بنيته الديموغرافية السوسيولوجية. وهذا التعديل ليس مقصوداً أو هناك من خطط له بل هو أمر طبيعي يحصل في كل المناطق والشعوب. ولأن مثل هذا التعديل غير مصطنع أو مستورد بل هو نتاج عادات وتقاليد وموروثات لا بد من التعامل معه بروح موضوعية وعقلية واقعية وغير منفعلة... والا سيظل لبنان عرضة للاهتزازات والارتجاجات.

التفاهم على صيغة سياسية جديدة تعطي الاعتبار أو الانتباه لهذا التحول السكاني يبقى أفضل بكثير من تجاهل الواقع والقفز فوقه والالتفاف حول الموضوعات.

لبنان عاش طويلاً في ظل صيغة «ائتلاف الطوائف» وكان يقبل بتوافق ضمني على قيادة طائفة للسلسلة. فدائما كان هناك الطائفة/ المركز أو طائفة مركزية تترك هويتها الخاصة تأثيراتها النسبية على الطوائف الأخرى من دون اكراه أو تسلط. فمنطق الأمور يتحرك وفق هذه القوانين. والأكبر ينشر ثقافته على الآخرين من دون تخطيط أو قصد. وحين تتغير ثقافة المجموع العام تتعدل الأمزجة وتنتقل بطبيعة الحال من لون إلى آخر ومن نمط معين إلى آخر.

المحاولة الأخيرة التي جرت لإعادة تأسيس دولة «مونتي كارلو» جاءت بعد التوافق على «اتفاق الطائف». وتم التفاهم على صيغة ترك ما هو للاعمار تقوم به الدولة (رفيق الحريري والمجموعات المالية التكنوقراطية من كل الطوائف والمذاهب) وترك ما هو للتحرير تقوم به المقاومة... وانتهى الأمر بانجاز التحرير وبناء الدولة في العام 2000. ومنذ ذاك الوقت بدأ التجاذب بين نزعتين ومنطقين إلى أن وقعت حرب 12 يوليو على لبنان.

العدوان اعاد النقاش إلى أسئلة المربع واحد. لمن الصلاحيات، ولمن سلطة القرار، ولمن السلاح، ومن يملك القوة، ومن هو صاحب قرار الحرب والسلم، وهل يحق لطائفة ان تجر معها السلسلة إلى مكان وتوقيت من دون علم المجموعات الأخرى؟

مشكلة هذه الأسئلة انها صحيحة من الجانبين. فمن جهة الدولة لها الحق أن تسأل وتطالب وتحاول توحيد الصلاحيات مع سلطة القرار والسيطرة على السلاح وقرار الحرب والسلم. فهذه الأسئلة تعتبر بديهية في نظر القانون الدولي وسيادة الدولة على ارضها وشعبها، ولكن المشكلة تبدأ من مكان آخر وهي حين يتم النظر إليها من جهة مقاومة تنشط في بلد مركب من تجمعات طائفية. فالمقاومة من حقها أن تسأل أيضاً عن الضمانات وضعف الدولة وعدم قدرتها على الدفاع والحماية وصيانة الحدود والسيادة والأرض والشعب.

هذه الازدواجية التي نهضت على «تعايش سلمي» بين الدولة والمقاومة منذ تسعينات القرن الماضي استنفدت أغراضها ولم يعد بالإمكان الاستمرار بها من دون تحديد الخيارات... اما الذهاب نحو حسم ميداني تلعب فيه الديموغرافيا دورها في ترجيح التوازن الطوائفي، أو تجديد الاتفاق على تفاهم «تسووي» يتطلب ادراكاً لقيمة لبنان وخصوصيته في منطقة تخيم عليها أنظمة لا ترفع الرأس.

الحسم أو الاتفاق يعطي اللبناني حق الاختيار ويضعه في صورة هيئة دولته وهويتها وثقافتها ومزاجها في المستقبل. أما الابقاء على لبنان ساحة مفتوحة فمعنى ذلك أن هذا البلد مقبل على خراب شامل

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1481 - الإثنين 25 سبتمبر 2006م الموافق 02 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً