مع متابعة مستمرة ولصيقة منا لردود الفعل الرسمية وبعض الردود الإعلامية عن قضية التقرير الذي أعده صلاح البندر، خبير ومستشار التخطيط الاستراتيجي السابق لدى إحدى أبرز الجهات الحكومية، والذي تمحور حول حقيقة الأوضاع السياسية الداخلية في البحرين، واحتوى على الكثير من المعلومات والمعطيات الخطيرة التي تضر أشد الضرر بصدقية العملية الانتخابية، أي مفصل رئيسي من مفاصل المشروع الإصلاحي لجلالة الملك المفدى، ومن دون شك فإن اضمحلال تلك الصدقية يعني بالتالي زيادة التأزم في قضية عدم الثقة المزمنة بين السلطة وقطاعات عريضة من القوى والتيارات السياسية الشعبية.
وانقياداً لحساسية تلك الظروف والقضايا فإنه لم يكن مطلوباً أبداً، أو متوقعاً أصلاً أن يكون الرد الإعلامي الرسمي بمثل هذا التقشف، وأن يتلكأ أمام أزمة خطيرة تسبب بها التقرير، وقد تؤثر كثيراً على السلم الأهلي والاجتماعي والاستقرار العام في المملكة، وتضعف من عرى المواطنة والانتماء.
لا يخفى على المطلع أن الردود الرسمية في غالبيتها الساحقة أتت إنشائية وموجزة، وعلى رغم ذلك غير مبدعة ومبتدعة أصلاً، بما فيها رد إعلامي من أبرز «ضحايا» التقرير، تضمن في البداية قدراً مرهباً من التهويل لا من ما انكشف من معلومات مخيفة كانت مخفية عن معظم الأنظار العامة، وإنما من شخص «البندر» ذاته. إذ تضمن الرد وبشكل متسارع طعناً في شخصية البندر وسلوكاته الخاصة وعلاقاته مع الناس، لا في كون المشخص (المعلومات الموثقة في التقرير)، وهو الأهم، وهو ما قد يشير إلى فهم مسبق بالعجز والإفلاس على تأدية المسئولية والواجب تجاه هذا التقرير وآثاره الخطيرة.
ولا أعتقد بأن الرد سيكون فاعلاً في إقناعه، والتفاعل إيجابياً مع الحدث وخطورته حينما يتم اللجوء إلى مجموعة من التدوينات للأفكار الشخصية وخربشات قلم على قطعة من ورق بشأن التقسيمات الطائفية والاثنية في المملكة، والتي يمكن أن يقوم بها أي شخص استناداً منه على كتابة أي بحث أو تقرير (أعوذ بالله من هذه الكلمة) أو رسالة ماجستير أو دكتوراه، أو حتى للمشاركة بورقة في محاضرة علمية عن التقسيمات الاثنية والطائفية للشعب البحريني، أو أن تكون مساهمة موضوعة في منبر للسجال السياسي!
وهذه التدوينات لا تأتي على مقاس مخطط تفجير إرهابي أو إثارة اضطرابات عامة، أو حتى تصلح لأن تكون ردا قد يستخدم كادعاء محترم، فما بالك بدحض معلومات موثقة وكشف نزيه لصدقية حقائق خطيرة قام بتجليتها التقرير!
هذه للأسف ردود، وبحسن نية منا، تمخضت عن عقليات لا تعي مستوى ذكاء المواطن البحريني المتحفز قلبه على حاضر ومستقبل مملكته الحبيبة، فضلاً عن مستوى ذكاء الإنسان الحديث في واقعه المتطور. فأخذاً بتداعيات سلسلة الثورات المعرفية والتكنولوجية المعاصرة التي أدت إلى ثراء وإثراء معلوماتي، وتعددية في الأسس والمصادر والركائز، وتنوع في الفرضيات والاستدلالات. والذي يبدو أنه لن ينتهي لكونه مرتبطاً بالإنسان والإنسانية.
أخذاً بتلك المتغيرات فإن أسلوب فرض وتعميم رواية موحدة على مستوى من الضعف المنهجي الواضح والقصور في تأدية الواجب والمسئولية لن يكون أمراً مجدياً وعلى القدر المطلوب، فزمن تكميم الأفواه وإغلاق النوافذ وحفر الخنادق، ودفن الملفات أو إحراق الوثائق وذر رمادها في المآقي قد ولى بغير رجعة.
ومن أجل مصارحة أكثر واقعية وأكثر لياقة بالزمن الإصلاحي الجميل، لا يمكن التعويل أبداً على انصياع وقبول لا إرادي وثقة مطلقة وعمياء فنلعق من ملعقة الدولة بأن «الأمور كلها على خير»، وأن «ما حصل كما يقولون لم يكن سوى مؤامرة خارجية تستهدف البحرين قيادةً وشعباً»، و«أنه لا داعي للمزيد من النقاش بشأن هذا الموضوع لأن المؤامرة انتهت والمتآمرون ولوا هاربين مذعورين إلى غير رجعة»، و«قد فشل (البندريون)، وفشلت المخابرات الإفريقية والبريطانية (الصديقة) في مؤامرتها تلك، وفي إدارة الفوضى والكوارث في مملكتنا الحبيبة»!
وكما قالوا لنا بأن إيران فشلت في ابتلاع الهوية العروبية والإسلامية حينما تركت برنامجها النووي وأزماته الدبلوماسية ومشكلاتها وأزماتها الداخلية والوجودية التنظيمية المزمنة والتي أشعلت في الرأس شيباً، لتتجه فوراً صوب «حالة أبوماهر» وتحرك جيوشها وتحشد طوابيرها الجرارة من تحت الأرض ومن فوق السماء لابتلاع «العدل» و«الخراب» سواسية!
هذه الرواية وغيرها من روايات سواء أكان قائلها مسئولا رسميا أم «ناشطا سياسيا» لن تعفي الدولة أبداً من المساءلة والمسئولية، سواء أكانت مسئولية افتراضية بإفشال مؤامرة خارجية أفرو-انجليزية، أم مسئولية مفروضة للتعامل بجدية مع ما ورد في التقرير في جو من المصارحة والشفافية!
فبحسب المسئولية الافتراضية للدولة في «إحباط المؤامرة والمغامرة» لا أعتقد أن الدولة أدت مسئوليتها في ذلك بدءًا من تعيين البندر بخلفياته الخطيرة (المعروفة لديهم) في هذا المنصب الوظيفي الحساس، ومروراً بملابسات اعتقاله، إذ لم يحتجز صلاح البندر ويتم التحقيق معه، حسبما تقتضي الأعراف والأصول القانونية، على ما جاء في تقريره الذي هو أسوأ وأكثر جسامة من انقلاب نظراً إلى ما جلاه وفتحه من ملفات خطيرة، وأثار من أزمات ربما لم تكن لتحدث جميعاً ومرة واحدة مع أية محاولة انقلابية (لا قدر الله).
وبدلاً من أن تكون هناك مشاركة جماعية في محاكمة البندر المتهم بأنه يستهدف نظام الحكم ذي الشرعية الحضارية والتاريخية، وبالتالي هو يستهدف مواثيق الشراكة بين الشعب البحريني والعائلة الكريمة الحاكمة. وهي مسألة لا ينبغي أن تنتفى وتقضى في يوم وليلة وفي لقاء واحد أو أكثر، وفي شكل أكثر ما يبدو أنه «تهريب» للبندر بالسفر إلى الخارج بكل حرية وأريحية من أن يكون إبعاداً ومجازاة له، في حين من يتهم بتهم قابلة للجدل والأخذ والرد، وأقل بكثير في خطورتها من تهمة البندر يحظر عليه السفر، ويتم الترتيب المسبق مع الخارج لمنعه من دخول أي بلد آخر، وقد تقيد تنقلاته لسنين!
وختاماً، وحتى لا تكون «بندرية»، فنعاصر البندر الصغير والأصغر مثلما عاصرنا «البندر» الأكبر، فإن الدولة مناط بها أن تراجع أسلوب تعاملها مع ملف تقرير البندر بواقعية صارمة لا هوادة فيها، واحترام لا مفر منه لذات الهيبة والمكانة التي قد تتضرر، كما هو مناط بها التأكد من ما ورد في التقرير من معلومات موثقة من أجل تطبيق حكم القانون والشرع، فيتم رد الاعتبار للضحايا أو مجازاة الجناة. ومهما حصل، وبالعامي الفصيح فإن «الغونغو» و«الغونغوليين» و«المتغنغلين» المتغلغلين في نسيج مجتمعنا «المدني» في النهاية هم منا وفينا، ولا يهم الأمر إذ قبلنا بالهم الرديء أو رديء الهم قبل بنا»!
الحمد لله أن هذا الملف لم يتفجر في «اللحظة البرلمانية الماضية» لأننا سنجهل حينها كم «بكس» و«طوالة لسان» و«صفاقة طائفية» كان سيحتاج تناول الملف إليها، وهل ستكون بذلك قد «عدت» على خير؟
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1481 - الإثنين 25 سبتمبر 2006م الموافق 02 رمضان 1427هـ