بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في الحادي عشر من فبراير/ شباط 1979 قيل حينها إن نظام الثورة المندفع يطمع في جواره الجغرافي والبشري بلا رحمة، فغلق عندها ملف العلاقات العربية مع الحكم الإسلامي الجديد. وعندما أشعل صدام حسين قادسيته ضد إيران فرض الواجب القومي المهترئ على «العروش» العربية أن تقف إلى جانب النظام في بغداد بلا حساب، فتعثر ملف العلاقة مع الإيرانيين مرة أخرى ولكن بصورة أشد.
وعندما غزا صدام الكويت في العام 1990 وما تلا ذلك من تبدل في الحوادث والموازين الإقليمية والدولية، قيل إن الحديث عن علاقة مع إيران «سابق لأوانه» في ظل أوضاع غير مستوية وملامح نظام دولي غير مكتمل.
وبعد انكفاء العراق على نفسه وفرض العقوبات الاقتصادية الظالمة عليه طيلة عقد كامل وأزيد، وما أحدثه ذلك التغييب من فراغ قومي واستراتيجي في المنطقة الخليجية والعربية تهيأت الظروف لأن تلعب طهران دوراً ضمن مساحة الفراغ تلك كنتيجة طبيعية لا تحتاج إلى دفوع أو تحالفات من أي نوع كان. وكان لزاماً على الدول العربية حينها أن تتعامل مع ذلك التطور الجديد بمزيد من الواقعية والمسئولية، إلا أن العلاقة مرة أخرى بقيت على ما هي عليه، وإن تطورت فهي في أحسن الأحوال «سلحفائية» لا تؤسس لشراكة حقيقية بين جارين يواجهان التحديات والمخاطر نفسها. بل الأكثر من ذلك أنها تعثرت أكثر من مرة إثر إعلان بعض الدول العربية وجود اختراقات استخباراتية وتدخلات إيرانية لزعزعة الأمن فيها.
وبعد السقوط الكئيب للعاصمة العراقية بغداد في 9 إبريل/ نيسان 2003 ودخول القوات الأميركية محتلة لهذا البلد العزيز، ومن ثم سيطرة الأحزاب الشيعية والكردية والعلمانية على السلطة هناك، بدأ الحديث يتركز على سعي إيران لإقامة هلال شيعي يمتد من العراق حتى الخليج، وأن العراق قُدم هدية ولقمة سائغة للإيرانيين! وكان ذلك الخطاب انعكاسا طبيعيا للضمور الحاد للدور العربي في المنطقة والعراق، ولانهزام ذلك الدور وغيابه، والذي أجبر «العروش» العربية لأن تقبل بالمعادلة القائمة وتسلم بها على رغم صيرورة عواصمها ملاذاً لفلول النظام البعثي السابق، لكنها سعت في الجانب الآخر لأن تبحث عن ملف آخر يعكر علاقتها من جديد مع طهران فكان الملف النووي الإيراني الذي بدأ الحديث عنه ينتظم ضمن سيمفونية قرب مفاعل بوشهر إلى الأرض العربية أكثر من قربه من العاصمة طهران، وبالتالي أزلية وجود المنغصات الجاهزة في مسيرة العلاقات مع هذا البلد الذي يتجاورنا بآلاف الكيلومترات ومنذ آلاف السنين، في حين أننا نرى الدول الواقعة خلف ظهرانينا وفوق رؤوسنا سواء في الجنوب الإفريقي أو وسطه وأيضاً في الشمال والجنوب والوسط الأوروبي، بل وحتى في العالم الجديد (فنزويلا وكوبا والبرازيل) كيف قطعت أشواطاً مهمة في تجسير أفضل العلاقات مع الجمهورية الإسلامية، وبقينا نحن دول الجوار أسرى لهواجس ينفخ في نارها الآخرون.
الأكيد هنا أننا لا نتحدث عن مجموعة اتفاقات ومذكرات تفاهم قد لا يكون لها أي دور إيجابي مرتقب في الأزمات القائمة، بل الحديث يدور هنا عن شراكة حقيقية ومصالح استراتيجية تتحكم في القرارات والسياسات التي نتخذها تجاه القضايا المختلفة، وإلى تفعيل الاهتمام بآليات إنشاء تجمع إقليمي يتزايد فيه دور القوى الإقليمية والمؤسسات الاقتصادية.
ولقد أثبتت التجارب السابقة أن التحالف مع الغرب وبالتحديد مع الولايات المتحدة الأميركية لا يمكنه أبداً أن يوفر مزيداً من الأمن الداخلي والإقليمي لدول وشعوب هذه المنطقة، فواشنطن لا تنظر إلى هذه العلاقة من زاوية اتحاد مصالح متبادلة بل على أنها علاقة الجزء بالكل الذي يمتلك حق التغيير وإعادة خلق التوازن في هذه العلاقة، وفي أحيان مختلفة قد لا يكترث أبداً برغبات ومصالح هذا الشريك إذا ما وصل الحديث عن مصالحه الخاصة والقومية إلى مستويات متواضعة، وهو ما رأيناه جلياً في أزمات المنطقة المختلفة وأبرزها غزو العراق الذي وعلى رغم معارضة الكثير من الدول العربية فإن الأميركيين مضوا في مشروعهم من دون الالتفات إلى أحد حتى ممن يسمون بالحلفاء لهم. بل الأكثر من ذلك انهم لم يتورعوا في تهديد تلك الأنظمة الحليفة لهم منذ خروج بريطانيا من الخليج في بداية السبعينات من القرن الماضي إذا لم تقم بمجموعة من المتطلبات السياسية والاقتصادية على أصعدة مختلفة تخدم المشروع الأميركي الجديد.
المعادلة التي يجب أن تعيها كل الدول العربية بنخبها وأحزابها أن العلاقة بينها وبين إيران لم تعد خاضعة للمزاجية السياسية، بل يجب أن تنطلق من حيث مكانة إيران في عالم اليوم، فهذا البلد قد قيض له أن يجني من أخطاء جيرانه الكثير، وأن يقتنص الفرص الناتجة عن التحولات الدولية والإقليمية حتى تخلص من نظامين عدوين له يجاورانه من دون أن يفرد لهما دولاراً واحداً من موازنته القومية. كما أفضت مساعيه الحثيثة طيلة انشغال العالم بأزمات المنطقة والعالم إلى حصوله على قدرة عسكرية هائلة، وعلى برنامج نووي متقدم هو الآن محل جدل كبير بين القوى العظمى، كما أنه يمتلك كتلة بشرية ضخمة هي في غالبيتها فتية شابة، وهو يعتبر ثاني أضخم الاقتصادات في المنطقة (110 مليارات دولار كناتج إجمالي)، كما أنه ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة الأقطار المصدرة (أوبك)، وثاني أضخم مالك لاحتياطيات الغاز في العالم. والأكثر من كل ذلك أن هذا البلد استثمر الكثير من الملفات التي تأخر العرب في حسمها أو الاستفراد بها، فنشط في الملف الفلسطيني واللبناني وفي الملف الديمقراطي فكوّن لنفسه مكانة متقدمة في غور العالم العربي. لذلك فإن تأجيل حسم العلاقة معه وبالخصوص من قبل دول عربية مركزية كمصر يشكل إعادة إنتاج للأخطاء العربية طيلة الثلاثين سنة الماضية والتي تحكمت فيها سيناريوهات وسياسات مرهونة بعلاقات غير مجدية.
إن الدول العربية يجب أن تعلم أن إطلاق الحكم العيني والتقييم غير القيمي في علاقاتها مع طهران هو أمر غير مجد، لأن علاقاتهم معها يجب أن تنطلق من تحجيمهم للمشكلات ومن محصلة طويلة من الأداء، فالسياسة الخارجية لا تقوم على متغير واحد بل هي ضمن مساق طويل من المتغيرات الداخلية والإقليمية والعالمية، خصوصاً مع دولة كإيران تنظر إلى القدرة النظامية على أنها ليست الحاسم في العلاقات مع الدول، لأن القدرات الاقتصادية وثورة الاتصالات والتعامل مع المشكلات وتناقضاتها ومن ثم استثمارها قد أخذ يلعب دوراً مهماً في الدبلوماسية الإيرانية وفي اتخاذ القرارات الوطنية.
إن المنطقة العربية اليوم بحاجة ماسة إلى تعريف خاص وجديد للهوية الإقليمية القادرة على صوغ المصالح الأمنية والتصدي للتهديدات التي تستهدف النظم السياسية، على رغم أن أزمة لبنان الأخيرة قد بينت مرة أخرى على أن «العروش» العربية مازالت متماسكة بالخيارات ذاتها التي جلبت لها الكثير من المشكلات طيلة السنوات الماضية.
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1480 - الأحد 24 سبتمبر 2006م الموافق 01 رمضان 1427هـ