العدد 1480 - الأحد 24 سبتمبر 2006م الموافق 01 رمضان 1427هـ

لبنان والمتغيرات السكانية الجديدة (2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

تبقى الرسالة الأهم التي وجهها الحشد المليوني في الضاحية الجنوبية هي تلك التي أطلقت باتجاه الداخل اللبناني. فالحرب العدوانية كشفت الساحة على منطقين: الدولة والمقاومة. فالدولة تملك الصلاحيات ومعترف بها دولياً وتعتبر من الأعضاء المؤسسين لجامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة لكنها حالياً لا تملك سلطة القرار. فالقرار الميداني تتحكم به المقاومة التي لا تملك الصلاحيات لكنها قادرة على إدارة دفة السفينة باتجاه السلم أو الحرب. وهذه الازدواجية بين الصلاحيات وسلطة القرار ستشكل نقطة تجاذب في الأسابيع المقبلة (بعد عيد الفطر السعيد) لحسم المعادلة بهذا الاتجاه أو ذاك أو التوصل إلى صيغة توفيقية توازن بين صلاحيات الدولة وسلطة المقاومة.

لبنان المختلف

لبنان الآن مختلف عن السابق وهو يمر في منعطف تاريخي دقيق لا يستبعد ان يؤدي إلى إعادة النظر في جوهر كيانه السياسي المؤتلف على تفاهمات طائفية زئبقية جعلته دائماً يتعرض لتدخلات وتوازنات أسهمت في تعطيل تقدمه وحسم خياراته نحو هذه الضفة أو تلك.

منطق الدولة (الحكومة الحالية) لم يختلف كثيراً عن تلك الحسابات الرقمية التي لجأ إليها ايهود أولمرت لتبرير انتصاره على لبنان. فالحكومة أعلنت منذ الأسبوع الأول للعدوان عن «نكبة لبنان» وبدأت بجردة حسابات لعدد القنابل والصواريخ التي سقطت وما أسفرت عنه من خسائر جرى تعدادها وفق نمط ثقافي يعتمد على الاقتصاد وآليات السوق. بينما المقاومة أعلنت الانتصار في ضوء ثقافة نمطية تعتمد حسابات غير منظورة تتصل بالناس والديموغرافيا السكانية وعدد الصواريخ التي أطلقتها من جانبها ولم تكترث كثيراً لكمية الاضرار التي ألحقتها الطائرات والبوارج والمدافع الإسرائيلية.

هذا الاختلاف في القراءة يؤكد صعوبة «التعايش السلمي» بين منطق الدولة ومنطق المقاومة. لذلك يتوقع أن تحصل متغيرات جديدة في لبنان بعد الاحتفال بعيد الفطر السعيد. والتوقعات يمكن أن تختصر بثلاث خطوات: الأولى ان تتقدم الدولة وتستوعب المقاومة وهذا كما يبدو من الأمور الصعبة في هذه المرحلة. الثانية ان تتقدم المقاومة وتستوعب الدولة وتقوم بتحويلها إلى قوية وقادرة. وهذا الأمر يعني تعديل هوية الدولة. الثالثة أن تتوصل الأطراف المعنية إلى تحقيق مصالحة تاريخية بين الدولة والمقاومة وهذا الأمر يتطلب عقلية تسووية من الطراز الرفيع ويبدو أنه غير متوافر في بلد تستهويه الرؤوس الحامية.

المسألة إذاً بحاجة إلى قراءة جديدة لفهم ألغازها وإشاراتها ومعادلاتها. وهي تتلخص في الثقافة وصلتها بالمتغيرات السكانية (الديموغرافية) التي حصلت في لبنان خلال العقود الخمسة الأخيرة من تاريخه.

تقليدياً لبنان نهض على نظرية «ائتلاف الطوائف» لكنه كان دائماً وعند كل محطة تاريخية تقوده طائفة مركزية. ففي مطلع القرن التاسع عشر شكل الدروز الطائفة المركزية في جبل لبنان واستمر حالهم إلى أن جاءت حملة إبراهيم باشا وقلبت التوازنات وأدت إلى تدخلات أجنبية انسحبت بموجبها القوات المصرية مخلفة وراءها احتقانات طائفية أدت إلى اندلاع حروب كارثية بين الدروز والموارنة.

الحروب الأهلية بين الدروز والموارنة كانت تعكس في جوهرها الثقافي متغيرات ديموغرافية (سكانية) لمصلحة الموارنة. وبسبب النمو المتفاوت في نسبة الديموغرافيا السكانية تحول الدروز عدديا إلى أقلية تدافع عن مواقعها والموارنة إلى أكثرية تطمح إلى قيادة جبل لبنان. وهكذا بدأ الدروز يخسرون القيادة خطوة خطوة إلى أن جاءت فرنسا في مطلع القرن العشرين وورثت بلاد الشام بعد انسحاب الجيش العثماني إلى تركيا. وحين أقدم الجنرال غورو على إعادة تأسيس لبنان وتوسيع حدود دولته من الصغير (جبل لبنان) إلى الكبير (حدوده الحالية) اضطرب الوضع الأهلي إلا أن الاستعمار الفرنسي أشرف على تنظيم العلاقات واضعاً الموارنة في مقدمة الطوائف.

آنذاك (سبتمبر 1920) شكل الموارنة الطرف القائد للدولة بصفتهم الطائفة/ المركز وهذا ما أعطى فرصة لترتيب صيغة علاقات أهلية ترسم حدودها الثقافية الطائفة الأكبر عدداً. وبسبب حجم الموارنة السكاني اكتسبت الطائفة امتياز تحديد هيئة الدولة وتوجهها السياسي الذي وفَّق بين الجبل والسهل، البحر والصحراء، الغرب والعرب، والإسلام والمسيحية.

هذه المناصفة والمحاصصة تشكلت تقليدياً منذ العام 1920 بقيادة الطائفة المركز التي حملت توجهات ثقافية ميزت لبنان (الدولة) عن المنطقة سواء بتركيبته الطائفية أو بطموحه نحو بناء واحة للهدؤ والاستقرار (مونتي كارلو) في محيط مضطرب بالانقلابات تقود دوله الثكنات بدلاً من البرلمانات.

اختلال جديد

استمرت قيادة الموارنة (الطائفة المركز) للائتلاف اللبناني من العام 1920 إلى 1975 (عام اندلاع الحروب الأهلية والإقليمية). هذا لا يعني أن لبنان لم يشهد انتفاضات ومواجهات إلا أن السلوك العام بقي تحت تأثير النمط الثقافي لقيادة الطائفة المركز على رغم المتغيرات الديموغرافية (السكانية) التي بدلت البنية العددية للطوائف الأخرى.

هذه المتغيرات ظهرت ملامحها السياسية في «اتفاق الطائف» والدستور اللبناني المعدل حين قررت الطوائف المجتمعة على تعديل نسبة الحصص وتحقيق التوازن بين المسلمين والمسيحيين. ومنذ ذاك الاتفاق لم يعد في لبنان ذاك المشروع الثقافي (دولة مونتي كارلو) تقوده طائفة مركزية. إلا أن الواقع الميداني كان يشير إلى وجود غلبة سكانية (عددية) للطوائف المسلمة بنسبة 65 في المئة مقابل 35 في المئة. وضمن التوزع العددي للمسلمين شكلت الطائفة الشيعية النسبة الأعلى في النمو الديموغرافي (السكاني).

هذا الاختلاف في التركيب الطوائفي لم ترتسم ملامحه في الدستور اللبناني إذ استمرت الدولة تدار بنظرية التوافق الديمقراطي (الائتلاف الطوائفي) بدلاً من الطائفة المركز (القائدة للسلسلة) بينما الواقع الميداني يشير إلى غلبة سكانية كاسحة للشيعة في مناطق معينة ونسبة عددية لا بأس بها في المناطق الأخرى.

هذا المتغير الجديد يشبه كثيراً ذاك الذي حصل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في جبل لبنان حين أدى التحول الديموغرافي إلى انتقال القيادة من الدروز إلى الموارنة بعد توافر الظروف الإقليمية والدولية.

الآن تبدو الأمور تسير في هذا المنعطف التاريخي على رغم عدم وجود إشارات سياسية بهذا الاتجاه. إلا أن الوقائع الميدانية تبقى الأقوى في رسم توجهات الدولة وخصوصاً حين تعجز السلطة عن السيطرة على التوازنات السكانية. فالنمو الديموغرافي في النهاية ليس ارتفاع نسبة التعداد السكاني فقط وانما يتركز في مدى تأثيره على التوجه الثقافي أيضاً. فالمتغير العددي يعني ضمناً حصول متغيرات ثقافية تعدل الزوايا والرؤية والتوجهات. وهذا الأمر سيترك تأثيراته في نمط السلوك العام في بلد توافقي يعتمد على الائتلاف والتوازن.

الحشد المليوني الذي تجمع في الضاحية الجنوبية بمناسبة انتصار المقاومة وهزيمة الدولة يعتبر أحد مظاهر التوجهات الجديدة للساحة اللبنانية. التجمع وجه رسائل متعددة الاتجاهات دولياً وعربياً وإسرائيلياً. اما الرسالة الأهم فهي لبنانية لأنها بكل بساطة تعلن عن ولادة هيئة جديدة للدولة ستكون مختلفة عن السابق. فلبنان لن يعود كما كان ولن تكون عودته طبعاً على نمط «مونتي كارلو

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1480 - الأحد 24 سبتمبر 2006م الموافق 01 رمضان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً