كان متوقعا ولم يكن غريبا علينا ان يخرج عمدة الكنيسة الكاثوليكية بحديث تنفر منه النفوس، ويشوبه منكر لا يخلو من روح صليبية غارقة في أوحال القرون الوسطى، يعتبر يسوع المسيح مؤسس الديانة المسيحية، وهي من أكثر الديانات السماوية شيوعا في العالم اذ يربوا أتباعها على المليارين - مليار كاثوليكي، 500 مليون بروتستانتي، 240 مليون أرثوذوكسي، و 275 مليون مسيحي من الطوائف الأخرى - بدأ المسيح دعوته في سنة 25م وهو في سن الثلاثين من عمره في مجتمع يدين باليهودية، رفضه اليهود وحرضوا الوثنيين الرومان على صلبه، لكنه رفع الى السماء وهو ابن الثالثة والثلاثين، وتولى تلامذته الحواريون نشر الدعوة من بعده، اذ قاموا بكتابة التعاليم التي أتى بها، ونشرها في كتاب مقدس عرف بالعهد الجديد، والذي يتكون من أربعة أناجيل هي: انجيل متى، انجيل مرقص، انجيل يوحنا، انجيل لوقا.
لم تكن المسيحية التي ولدت في الشرق تعرف طريقها الى الغرب إلا بعد ما تحول إمبراطور روما قسطنطين الكبير من الوثنية الى المسيحية وصرح في سنة 311م بوجوب اعتبار المسيحية ديانة قانونية، وبنى في روما أول كنيسة سميت باسمه حينها أصبحت روما معقل البابوية، وهي منصب ديني، يمنح لكل أسقف في الكنيسة، لكنه مع الوقت أعطي لمن يمثل رأس السلطة في الكنيسة الكاثوليكية في روما، ومنذ القرن السادس الميلادي تحولت روما الى إقليم بابوي سيطر عليه رجال الدين - سمي بالثوقراطية -، الذين مدو سيطرتهم بشكل تدريجي على بقية مناطق شبه الجزيرة الإيطالية، وعرف ذلك في التاريخ بعصر الولايات البابوية، والتي استمرت لأكثر من ألف سنة حتى استطاعت مدن ايطاليا الثورة في وجه الحكم البابوي وضمت روما إليها في العام 1870، عندئذ رفض الباباوات الخضوع للدولة الموحدة الجديدة، وتجمعوا في الحي القديم غير المسكون في شمال غرب روما عند كنيسة قسطنطين الكبير في المكان المقدس المعروف بالفاتيكان، واعتبروا أنفسهم أسرى، وبقى الأمر سجالا بين الطرفين حتى جاء نيتو موسيليني على رأس السلطة في إيطاليا وعقد مع الباباويات السجناء اتفاق لاتران في 11 فبراير/ شباط 1929م والقاضي بتأسيس دولة الفاتيكان كدولة مستقلة، مع اعتبار الكاثوليكية الديانة الرسمية لإيطاليا، وفي العام 1984م أجريت تغييرات على الاتفاق ليفصل بموجبها الكنيسة الكاثوليكية عن الدولة الإيطالية.
تعتبر دولة الفاتيكان من اصغر دول العالم اذ لا تتجاوز مساحتها 44 كلم مربعاً وهي بمثابة دولة دينية خالصة، يبلغ عدد سكانها نحو 921 نسمة وهم من المتدينين العاملين فيها من رجال دين وحراس، وتعتمد في مواردها المالية على إيرادات السياحة والطباعة والأنشطة البنكية والمنح المالية من الدول والمتبرعين. يعتبر البابا أعلى سلطة دينية في الفاتيكان، ويجرى انتخابه لمدى الحياة عن طريق مجلس يعرف بالكرادلة في طقوس خاصة اذ يجتمع المجلس في الكنيسة السيستينية في الفاتيكان ويبقون فيها حتى انتخاب البابا الجديد، ويتم الإعلان عنه بإطلاق دخان ابيض يتصاعد من مدخنة الكنيسة. يتمتع البابا بسلطات تنفيذية، تشريعية وقضائية مطلقة يساعده في ذلك طاقم إداري يعينه البابا بنفسه كل خمس سنوات، وتوالى على حكم الكنيسة الكاثوليكية ما يفوق المئتي بابا أخرهم البابا الحالي جوزيف غاتسنجر الذي انتخب خلفا للبابا يوحنا بولس الثاني في 19 ابريل/ نيسان من العام 2005م واتخذ اسم البابا بنديكت السادس عشر، وكان يشغل مقعداً لتدريس اللاهوت وتاريخ العقيدة في جامعة راتيسبون منذ العام 1969م.
في يوم السبت التاسع من سبتمبر الجاري قام البابا بزيارة راعوية لألمانيا مسقط رأسه، وفي صباح يوم الثلثاء 13 سبتمبر/ أيلول احتفل قداسته بعيد ارتفاع الصليب في كابلة المعهد الإكليريكي في جامعة ريغنسبورغ إذ ألقى خطابا ناريا أجج فيه مشاعر المسلمين اذ وجه انتقادات لاذعة للدين الإسلامي متهما النبي الكريم (ص) باتهامات جاءت على لسان الإمبراطور البيزنطي مانويل الثاني باليولوجوس في القرن الرابع عشر الذي كتب في حوار مع رجل فارسي ان كل ما جلبه النبي محمد (ص) «كان شرا وغير إنساني» مثل أمره بنشر الدين الذي يدعو إليه بحد السيف. وقد أثارت هذه التصريحات المسيئة لنحو مليار ونصف المليار مسلم في أنحاء العالم، وفي ألمانيا التي شهدت الحدث، رفض رئيس المجلس المركزي للمسلمين، أيمن مازيك، تصريحات البابا. اذ قال: «بعد الحملات الملطخة بالدماء للتحول للمسيحية في أميركا الجنوبية، والحملات الصليبية على العالم الإسلامي، وتطويع نظام هتلر للكنيسة، وحتى استحداث البابا أربان الثاني لمصطلح الحرب المقدسة، لا اعتقد أنه يحق للكنيسة أن تشير بإصبع الاتهام للأنشطة المتطرفة في الديانات الأخرى» وعليه ارتفعت الأصوات مطالبة البابا بالاعتذار.
لم يكن ذلك الخطاب جديدا، ولم يكن مفصولا أبدا عن السياسية وهذا خلاف للاعتقاد السائد بان الدين المسيحي لا علاقة له بالسياسة وفقا لروايتهم المعهودة والتي تشير الى ان أحدهم جاء للمسيح يسأله عما اذا كان عليه دفع الضريبة للقيصر، فأشار المسيح بيده الى سائله ان يعطيه قطعة النقود التي كان يحملها وعليها صورة القيصر، فسأله: لمن هذه الصورة؟ فأجابه السائل: إنها صورة القيصر، فما كان من المسيح إلا ان أجابه قائلا: «إذن أعط لقيصر ما هو لقيصر، وأعط لله ما هو لله» واعتبروا ذلك إشارة لفصل الدين عن الدولة. لكن خطابات الباباوات ومواقفهم لم تكن بعيدة عن توجهات حكام العالم الغربي المسيحي ولم يكن خطاب البابا بنديكت السادس عشر أول الخطابات التي تنال بقسوة من المسلمين بل سبقتها خطابات أكثر لعنة، فقد اعتبر البابا غريغوري السابع (1073 - 1085) المسلمين بأهل الدنس والرجس، أما البابا أوربان الثاني (1088 - 1099م) فهو من أكثر الباباوات صراحة في عدائه للمسلمين اذ استخدم مفردات شنيعة خارجة عن إطار الأخلاق الإنسانية، اذ نعت المسلمين بالجنس الملعون الخبيث، فهو خطيب الحروب الصليبية الأول، اذ وجه خطابه التاريخي الى الأمة المسيحية بقوله: «يا شعب الله المحبوب المختار... لقد جاءت من بلاد فلسطين، ومن مدينة القسطنطينية، أنباء محزنة تعلن أن جنسا لعينا أبعد ما يكون عن الله قد طغى وبغى في تلك البلاد، بلاد المسيحيين».
هذه الخطابات لم تؤد إلا لمزيد من الاختناقات، والعالم في غنى عن ذلك كله، اذ لم يكن احد منا يريد ان تصطدم الأديان ببعضها، ولا احد منا يرضى ان ينال رسل الرحمة الإلهية بسوء، ولا احد منا يريد ان يتشابك - من اعتقدوا انهم - عباد الله المخلصين، فلنعش جميعا في ملكوت الرب الرحيم بسلام
إقرأ أيضا لـ "رملة عبد الحميد"العدد 1480 - الأحد 24 سبتمبر 2006م الموافق 01 رمضان 1427هـ