الحشد المليوني الذي تجمع في الضاحية الجنوبية من بيروت في 22 سبتمبر/ أيلول الجاري بمناسبة النصر الذي حققه حزب الله على العدوان الأميركي - الصهيوني وجه رسائل متعددة الاتجاهات دولياً وعربياً وإسرائيلياً ولبنانياً.
الرسائل غير موحدة في منطقها السياسي لكنها كانت كافية كاشارات للدلالة على حصول متغيرات حقيقية يصعب كسرها وفق تلك التصورات التي كانت متداولة قبل 12 يوليو/ تموز الماضي. فما حصل في ذاك اليوم التاريخي شكل محطة زمنية أعلنت عن مفارقة نوعية في المعادلات. فلبنان بعد 12 يوليو لم يعد كما كان ولن يعود كما كان. وهذه الحقيقة لم تدركها بعد كل تلك التجمعات السياسية التي تطلق على نفسها «8 آذار» و«14 آذار». وبانتظار أن تكتشف تلك التجمعات التي تجاوزها الزمن المتغيرات الجديدة لابد من توقع هزات ارتدادية لذاك الزلزال المدمر الذي ضرب دولة «لبنان الكبير» التي تأسست، ويا للمفارقة المدهشة، في سبتمبر 1920.
عناوين الرسائل
المهم الآن العمل على فك عناوين الرسائل التي وجهها الحشد المليوني في الضاحية الجنوبية. دولياً لابد أن إدارة الولايات المتحدة راقبت التجمع وبدأت بقراءة مضامين الموضوعات المطروحة على جدول أعمالها. فالحشد لاشك أكد مجدداً للإدارة الشريرة في واشنطن أن فلسفتها التقويضية (التحطيمية) غير صالحة في المنطقة العربية الإسلامية حتى لو أدت إلى تدمير البنى التحتية وتفكيك الابنية السكانية. فلسفة إدارة جورج بوش اعتمدت منذ خمس سنوات سياسة التغيير من فوق وهي تقوم على فكرة اختصار الزمن وعدم انتظار التطور الاجتماعي يأخذ مداه الجغرافي. وهذه الفلسفة بررت حروب بوش الدائمة وهي لاتزال تسيطر على عقلية إدارته. ولكن التجمع المليوني الذي احتشد في الضاحية الجنوبية وجه رسالة مضادة لهذا المنطق المتهافت إذ اوضح للإدارة الشريرة ان التغيير من الخارج يؤدي إلى تحطيم البنى التحتية وتقويض الدولة واطلاق الفوضى واخراج «الملل والنحل» من بيوتها المذهبية والمناطقية والطائفية والعشائرية الا أنه لا يغير الحقائق السكانية (الديموغراطية) على الأرض. فأميركا قد تستطيع الفوز العسكري على قوى نظامية وأهداف ثابتة إلا أنها غير قادرة على تسجيل الانتصار السياسي الميداني على الناس وخصوصاً إذا توافرت للجماهير قيادة واعية تجيد أساليب التجييش والتنظيم.
عربياً لابد أن المشهد الجماهيري وصل إلى المراقب العربي على المستويين الشارع والأنظمة. ووصول المشهد مسألة كافية لإعادة تصويب استراتيجية اعتمدت منذ تسعينات القرن الماضي سياسة الانفتاح والتنازل والقبول بالأمر الواقع مقابل تكبر وتشاوف وإدارة ظهر لكل المبادرات السلمية آخرها تلك التي تقدمت بها «المجموعة العربية» في مجلس الأمن.
الشارع الإسرائيلي الغاضب
إسرائيلياً لابد أن المنظر التقطه الشارع الغاضب من حكومته بسبب تخبطها وتقصيرها من شاشات التلفزة والفضائيات. والمشهد سيزيد الجمهور الإسرائيلي قناعة بأن حزب الله انتصر وأن حكومته تلقت صفعة تاريخية واستراتيجية تحتاج إلى وقت لاكتشاف معانيها البعيدة. حكومة ايهود أولمرت لابد أن تكون الآن في حال يرثى لها بعد فشل كل محاولات الاقناع التي لجأ إليها الوزراء لشرح انتصار تل أبيب على بيروت. فالمشهد سيكون له وقعه النفسي وتأثيره السياسي على الجمهور الإسرائيلي الذي يبدو انه لم يقتنع بكل الذرائع التي أطلقها رئيس الحكومة. فالجمهور يميل إلى تصديق كلام حزب الله عن الانتصار أو على الأقل فشل «إسرائيل» في تحقيق أهدافها.
وهذا الميل إلى التصديق سيتضاعف بعد الحشد المليوني في 22 سبتمبر. وبالتالي بات على أولمرت أن يفكر ثانية في الموضوع وخصوصاً بعد أن وصلت إلى اسماعه سالفة وجود أكثر من 20 ألف صاروخ. فالكلام الذي قيل عن الجاهزية والتسلح يعني أن حزب الله على استعداد لإعادة التجربة وتكرار المنازلة. وهذا بحد ذاته بحاجة إلى جولة جديدة لاقناع جمهوره أو السكوت والكف عن «شد شعره» والصراخ بقصد تبرير الفشل. وبين احتمال الجولة الجديدة والصمت يبدو أن أولمرت يميل الآن إلى القبول بالأمر الواقع على مضض.
بالتأكيد أن أولمرت غير مصدق لما حصل وغير مقتنع بكلام حزب الله عن الانتصار. وهذا الشك يعود إلى اختلاف في الثقافة وقراءة أخرى لحسابات الربح والخسارة. فأولمرت يقول لجمهوره كيف يكون حزب الله انتصر وقوات «إسرائيل» نجحت في تدمير 250 مدرسة و117 جسراً و108 مصانع ومؤسسة وحرقت 30 بلدة وقرية في الشريط الحدودي وحطمت البنى التحتية للدولة واتلفت 130 ألف وحدة سكنية ودفعت 240 ألف لبناني إلى طلب مغادرة البلاد من دون تفكير في العودة. فهذه الأرقام بحسابات أولمرت خسارة للبنان الذي عاد عشر سنوات إلى الوراء ويحتاج إلى عشر سنوات أخرى للوصول إلى المكان الذي كان عليه... وأيضاً فإن كلفة إعادة الإعمار وتعويض الخسائر المباشرة وغير المباشرة تتطلب موازنة لا تقل عن عشرة مليارات.
كل هذه الحسابات يذكرها أولمرت أمام جمهوره الغاضب لتأكيد أن لبنان خسر الحرب وغير قادر على خوض جولة أخرى. إلا أن الشارع الإسرائيلي لا يصدق ويميل إلى سحب ثقته من حكومته لمصلحة زعيم «الليكود» بنيامين نتنياهو. فالأخير يبدو أنه حقق قفزات في شعبيته وبات في موضع يسمح له لاحقاً باستعادة موقع فقده ويحلم بالعودة اليه.
إلا أن التغيير الوزاري المفترض لن يغير الوقائع لأن أولمرت قام بالمستحيل ولم ينجح. كذلك سيكون مصير نتنياهو مهما فعل وابتكر من أدوات للتدمير والتحطيم. فالنتيجة في النهاية ستكون متشابهة وسيخرج من جديد أكثر من مليون لتجديد التحدي وإعلان الانتصار.
الجانب الثقافي
المسألة إذاً تحتاج إلى قراءة من زاوية مختلفة وخارج المعادلات الحسابية التي تدرس رقمياً عناصر الربح والخسارة. فالمسألة هي ثقافية وتتصل في العمق بالجوهر السياسي والصلة بين الدولة والمقاومة في لبنان. فالمقاومة لا تعتبر أن خسائر الدولة خسارة لها وبالتالي فإن ما فعله أولمرت وما سيفعله نتنياهو لن يقدم أو يؤخر في النتيجة.
المسألة الثقافية نقطة مهمة تتجاهلها حكومة أولمرت في حساباتها الرقمية. وهذا الخطأ في التقدير ارتكبته إدارة بوش الشريرة حين اتجهت نحو فلسفة التغيير من فوق وتعديل المعادلات من الخارج فاستخدمت الطيران (القوة الجوية) لتدمير البنى التحتية وتقويض دولة العراق. وعندما سقط النظام البعثي (التكريتي) خرجت المقاومة من أمكنة غير متوقعة.
المسألة الثقافية في النهاية مسألة ديموغرافية تتصل بالبنية السكانية والهوية الدينية للناس والتقاليد الموروثة والآليات التي تنتج السياسة. وكل هذه العناصر غير منظورة ولا يمكن تدميرها أو سحقها أو تفكيكها بالسهولة أو السرعة التي تتوقعها القوات الجوية العسكرية. فالقوة الفوقية (الخارجية) تسقط المباني والجسور والمدارس والكليات والمستشفيات والمنازل لكنها لا تستطيع إسقاط ثقافة متصلة بالبنية السكانية (الديموغرافية) وما تحمله من موروثات وممانعات وآليات تنتج عناصر داخلية من الصعب رصدها بأجهزة المراقبة والرادارات
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1479 - السبت 23 سبتمبر 2006م الموافق 29 شعبان 1427هـ