الجدل المتواصل والتأزم الحاصل بين مختلف الأطراف المؤيدة والمعارضة لتطبيق تجربة «التصويت الالكتروني» في الانتخابات النيابية المقبلة لايزل مستمراً، بل أخذ يبدو أكثر حدة وتأججاً مع إصرار الأطراف المروجة له والمدعومين رسمياً وبتصفيق إعلامي منقطع النظير، وهم ثلة من التكنوقراط التابعين لجهة حكومية محددة على مواصلة اتباع أسلوب التسويق والترويج والإبهار الإعلاني لهذه التجربة القادمة إلى الساحة الانتخابية بكل وثوقية على رغم وجود الكثير من التحفظات الواضحة، والجراح التي لاتزال ملتهبة على أشدها ولم تحظ بالانتباه في ظل سحابة داكنة تحجب أية إمكانية للثقة والإقرار الفعلي بحق الآخر المعارض في البروز والتنافس الشريف.
وفي حين تبدي الجهات ومنظمات المجتمع المدني المعارضة لتطبيق هذه التجربة نوعاً من القلق والشك الواضح في مدى صدقية وبراءة اللجوء إلى تطبيق هذه التقنية الجديدة، والتي هي من دون أدنى التباس أسباب سياسية مشروعة وبينة قد تعززت صدقيتها وانتصرت لذاتها ليس بالضربة وإنما «الرفسة القاضية» حديثاً مع واقع الفضيحة المؤلمة.
ولكن وإن سلمنا واحترمنا حق المروجين والمصفقين والمطبلين لتطبيق هذه التجربة الإلكترونية إلا أنه يحرم علينا كمراقبين وشاهدين ألا نحرك ساكناً أمام بعض التجاوزات والخطابات التي للأسف بات يرتقيها نوع من التبجح والاستعلاء الذميم من قبل بعض أبرز المروجين لهذه التجربة، والتي فيما يبدو أنها قد تفرض على المواطنين فرضاً ولو استدعى لذلك العتاد والسلاح، بعد أن ابتذلت «الميديا» من فرط استهلاكها وإهلاكها، وذلك على حساب الأطراف الأخرى وحقها المشروع في الاعتراض والممانعة وممارسة الرفض.
وإن شئنا أن ننزل إلى ذات المستوى غير اللائق من التبجح والاستصغار لربما أمكننا أن نقول لهم بالحرف الواحد «يا جماعة التكنوقراط الأفاضل لم لا تدعوا ملاعب السياسة للسياسيين الشرفاء، وتأخذوا بيد مبهركم المعجزة (التصويت الالكتروني) عسى أن تنالوا به جائزة أو ميدالية أو كوبوناً وقسيمة في مسابقة أو بطولة تعاونية، فقد انتهى الآن كل شيء، وانكشفت السالفة!
إلا أنه لا داعي لكل ذاك العناء والشقاء في وقت الأولى أن تتم فيه المداراة لا المداورة للفضيحة والخيبة، فمثل ذلك التبجح والاستعلاء والتصغير من شأن الآخرين المعارضين، تسبب وسيتسبب في التقليل من شأن الادعاءات والذخائر المنطقية التي عادة ما يشهرها مؤيدو ومنظمو حملة الترويج لتطبيق هذه التقنية المستحدثة!
كما هو أدى ويؤدي إلى إهدار حياديتها وموضوعيتها، إلا أنه ومع الاستماتة و«الفزعة» الفدائية الفريدة التي أبرزها حديثاً على مختلف الصفحات والزوايا الإعلامية عدد من «النشطاء السياسيين» المحسوبين على الجبهة «الغونغولية» المتحدة، وغيرهم من وكلاء تغولوا في تقديس التجربة المقبلة، وعلى المنوال ذاته تجرأوا على المساس والتحرش بالأرصدة الشعبية والجماهيرية وحتى الرقمية «الديمغرافية» لخصومهم من المعارضين البارزين إلى حد المراهنة والتحدي والاستعداد للبصم وربما حلف وقذف اليمين في مرات قادمة على احتمال فوز خصومهم المعارضين ممن اشتهروا بكفاءتهم وريادتهم وتفانيهم في العمل السياسي الوطني، وذلك في الانتخابات البرلمانية المقبلة!
وهو ما سيتسبب في إحراج بليغ لموكليهم من أصحاب القامة الرفيعة جراء تلك التصريحات غير المسئولة التي أطلقها الوكلاء أكانوا «ناشطين سياسيين» أم «كتاب من تحت البشوت»، وغيرهم من دخلاء وطفيليين (Parasites) طارئين على النشاط المدني والعمل السياسي الوطني، والذي بات من الطبيعي ومن الـ «بيولوجي» جداً التسليم به على اعتبار أن ارتفاع حرارة الطقس الانتخابي تسهم في زيادة توليده مع محيط البيئة السياسية والاجتماعية!
لذلك كان من المشروع والمتوقع أن تتزايد بعد تلك الاستعراضات «الفدوية» في الذود عن هذه التجربة، وفي مهاجمة معارضيها وخصومها صدقية وواقعية مطالب المعارضة الوطنية ومواقفها المشككة في الدوافع السياسية من تطبيق التصويت الالكتروني وغيره من وسائل بعدما بلغت تلك الهجمات المسنودة إعلامياً مرحلة نوعية من الارتقاء، لتصبح في مصاف الأحكام التنجيمية الخارقة التي أطلقها بأريحية أخيراً أبرز المتصدرين لقائمة «الناشطين السياسيين»، والتي أكدت جزاء الفشل والخسران الذي سيكون من نصيب هذه المعارضة في أكثر من دائرة!
وكأنما صاحبنا المنجم يعرف النتائج الانتخابية دقيقة دقيقة وبالطول والعرض، أو لربما الأمر وكل ما فيه أنها مجرد لعبة مفتوحة على مصراعيها وصاحبنا المنجم قد يكون أبرز لاعبيها، أو لعل صاحبنا المنجم ومترجم الطلاسم التي عافت أخيراً من طلسميتها لتتبدى أشباه حقائق قد قرأ في خريطة غيبية سرية خلف برزخ مؤسساتي مهيب في حجبه وحجمه معاً، بأن النتائج الانتخابية قد رصدت ولم يتبق سوى بعض الرتوش التنظيمية الضرورية لإطلاق البالون «الديمقراطي» المطلي بما شاء له من ألوان!
هو صاحبنا المنجم وحكيم زمانه يطلع على أمور وحسابات وخطط سير ومدارج انتخابية قد لا نعرفها ولا يعرفها الكثير! هذا وغيره ممن احترف التنجيم حديثاً قد أضرا بفجاجة سلوكهما وتهورهما بالمشروع الإصلاحي ولم يعيرا أي اهتمام لما افترض أن تتكرس في ظله من قيم ومبادئ ثرية بتعدديتها وتنوعها، ومتينة في انسجامها، لا مجرد تشريعات وحزم تنظيمية جوفاء لا تغير من الوضع شيئاً. كيف وأين هم من قول قائد هذا المشروع الوطني، أي جلالة الملك المفدى، بأن أجمل الأيام هي التي ستشارك فيها المعارضة بالانتخابات النيابية؟
لم يكن على الوكلاء أن يحرجوا موكليهم في كل موقف ومقلب باستزلامية غوغائية كالعادة اخترقت كل حدود الأهلية العقلية والنفسية الإنسانية جمعاء، كما أنه لم يكن لهم أن يستهتروا بحساسية وخطورة الظرف الحالي فيقامروا على شرف سمعتهم التي قد تكون سكبت في قنوات الصرف الصحي، وينذروا فتات كراماتهم لرياح وتيارات قد لا تتجه في صالحها!
كان عليهم فقط أن يستمسكوا بما تبقى لهم من «ماضئ مجيد» كنوع من الاحتشام والستر بعيداً عن سرب الفضائح المحلقة في فضاءات تكنولوجية وكأنما لا تحدوها آفاق!
وفي كل الحالات ومع تفاوت الظنون المختلفة تجاه تلك الأحكام التنجيمية الصادرة عن شراسة فدائية، وإن خلبت الأبصار إلا أنها لن تستلب البصائر بعيداً عن استزلاميتها الروحية وكرامتها المرهونة بوثنية!
للأسف ستظل أزمة فقدان الثقة بين المعارضة والسلطة هي الأكثر تعقداً وتشابكاً ضمن النسيج السياسي والاجتماعي العام للدولة، ولربما تسهم الأوضاع الحالية المأساوية في سد أية منافذ محتملة للتوصل ولو إلى نوع من الهدنة والتسوية ولو من باب الاشتراط والتحفظ، فترثى الشراكة (لا قدر الله).
ولئن أصبحت وعدت العديد من تقولات وأحكام المنجمين والمشعوذين «الغونغوليين» وغيرهم حقيقة تاريخية من باب الصدفة، أو بواسطة تواصل غيبي أو «تلباثي» مبهم من نوع آخر، إلا أننا كدأبنا الذي لن نحيد عنه سنلجأ في مواجهتنا لدعاة التنجيم الانتخابي المستشري حالياً إلى القول النبوي الفصل «كذب المنجمون ولو صدقوا»، وعلى وزن المنجمين قد يأتي المنافقون والدجالون والمدلسون، و«الناشطون السياسيون» الخ.!
كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 1479 - السبت 23 سبتمبر 2006م الموافق 29 شعبان 1427هـ