قام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بزيارة رسمية للمغرب يومي السادس والسابع من شهر سبتمبر/ أيلول الماضي، بدعوة من الملك محمد السادس الزيارة الأولى التي يقوم بها رئيس روسي لهذا البلد والتي نتج عنها توقيع تسع اتفاقات تعاون شملت السياحة والمجال المصرفي والصيد البحري والإعلام. لكن الموضوع الأبرز الذي تمت مناقشته وأثار حفيظة الأوروبيين، هو العرض الذي تقدمت به موسكو الهادف لبناء محطة نووية لاغراض سلمية. في هذا السياق ذكر مصدر رفيع المستوى أنه سبق للمغرب ان طلب من فرنسا مساعدتها له بإنشاء هذه المحطة من أجل إنتاج الكهرباء وتحلية مياه البحر.
من المغرب إلى جنوب إفريقيا
لقد أتت زيارة بوتين للرباط مباشرة بعد الزيارة التي قام بها الأخير لدولة جنوب إفريقيا بعد انقطاع دام لعدة سنوات اثر تفكك الاتحاد السوفياتي وما تلاها من تخبط على مستوى العلاقات الخارجية، وخصوصاً في القارة الإفريقية إذ كانت لروسيا الشيوعية روابط متميزة مع الكثير من الأنظمة فيها. وتفيد المعلومات المتوافرة عبر بعض مرافقي الرئيس الروسي بأن الكثير من الاتفاقات المهمة، وخصوصاً في مجال الاستثمارات في مناجم الذهب والماس مدخول المصارف الروسية السوق المالية الجنوب إفريقية، وتشكيل لجان لبحث التعاون في مجالات التكنولوجيا الدفاعية قد حسمت. ما بات يقلق جديا الدول الغربية، في طليعتها الولايات المتحدة الأميركية التي تراقب عن كثب الاختراقات التي تقوم بها الشركات الروسية منذ فترة لمنطقة شمال إفريقيا وصولا إلى قلب القارة السوداء. وتجد الدول الغربية صعوبة في هضم دخول العملاق الروسي في مجال الطاقة «غاز بروم» للجزائر من ابوابها الواسعة في حين عمدت هذه الأخيرة للتراجع فوق عن القانون المتعلق بالطاقة المتضمن لفتح هذا القطاع العام الاستثمار الأجنبي.
الدليل على هذا التخوف، القلق الذي ساور الكثير من المسئولين الغربيين عشية وصول فلاديمير بوتين إلى المغرب الذي عبر عنه صراحة وزير مالية فرنسا، تيري بروثرت، الذي حذر من احتمال قيام «حرب طاقة»، ذلك بسبب الاتفاق الذي وقع بين العملاق الروسي «غاز بروم» ورأس جهة الاقتصاد الجزائري، شركة سوناطاك. في السياق عينه، أبدى الغربيون خشيتهم من قيام الشريك الجديد في مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، ليس باستعادة دوره السابق في إفريقيا فحسب، بل في الذهاب ابعد من ذلك عبر «اقتحام» محمياتهم التقليدية في منطقة المغرب الغربي. فلدى الغربيين اليوم هاجس حيال الشركات الروسية التي تتموضع يوماً بعد يوم في مجالات جديدة مثل الطاقة، والعمل المصرفي وحتى السياحة، كما هو حاصل منذ أكثر من سنة في المغرب إذ قامت مجموعة من المستثمرين الروسي بشراء عدة فنادق في مدينة مراكش التي ستتطب وحدها حالياً عدة ملايين من السياح سنوياً.
القيصر يغزو إفريقيا
ومن ضمن الأدوات الجديدة الموجودة في استراتيجية مسئول جهاز «لكي. جي. بي السابق» و«القيصر الروسي الحديث»، غزو أسواق البلدان في شمال إفريقيا والقارة السوداء عموما، عبر الاستثمارات الخارجية المباشرة. هذا ما حصل خلال زيارتيه الأخريين لكل من جنوب إفريقيا والمملكة المغربية. فبالنسبة إلى هذه الأخيرة، أوضح المحللون السياسيون بان المغرب الذي عرف خلال الحرب البادرة الحفاظ على علاقات متوازنة مع الاتحاد السوفياتي، قادر اليوم على فتح علاقات استثنائية مع روسيا المنفتحة تتجاوز بيع الفوسقات والحمضيات. ويضيف هؤلاء المحللون ان «المغرب الذي اطلاق عدة ورشات ضخمة مثل مشروع «طنجة - ميد» ووادي مرقداق وإنشاء مدينة جديدة بالقرب من الدار البيضاء يحتاج أكثر من أي وقت مضى لفتح أبواب أسواقه للشركات الروسية التي تملك إمكانات هائلة، وتثبت يوماً بعد يوم فعاليتها بجديتها في عدة قطاعات اساسية. باختصار، يمكن القول إن زيارة فلاديمير بوتين للرباط أظهرت أن «زمن المصالح المشتركة» هو اليوم في طليعة جدول الأعمال بين البلدين وأن «الرضى كان مشتركا» بعد توقيع الاتفاقات التسع.
ويؤكد المراقبون أن الرئيس الروسي يحاول في هذه المرحلة وضع الأمور في نصابها على مستوى علاقات بلده الكبير مع العالم، وبالتالي استعادة الدور المفقود مع الانهيار الكبير للامبراطورية السوفياتية. فشعبية بوتين في داخل روسيا كما في خارجها بدأت بالانعكاس ايجابياً على الاختراقات التي حققتها دبلوماسيتها كذلك، عبر النقاط التي سجلتها شركاتها التي تجوب حالياً جميع أسواق العالم والتي نجحت حتى الآن في مقارعة أكبر الشركات القابضة الغربية في هذا الإطار، يكشف مركز الدراسات «يوري ليقادا»، أول مؤسسة استطلاعات للرأي في روسيا وأهمها على الاطلاق، في آخر عملية له في شهر أغسطس/ آب الماضي بان فلاديمير بوتين يحظى بتجاوب 79 في المئة من الموطنين الذين تم استجوابهم في 46 منطقة اساسية قد روسيا الاتحادية، في حين أبدى 190 في المئة فقط اعتراضهم على أسلوبه في الحكم.
فهذه الشعبية التي يتمتع بها بوتين والتي يضاف عليها ديناميته وحطته السياسية الممزوجة بأسلوب عمل المخابرات، لا يمكن إلا أن يلعبا لصالح الاستراتيجية الروسية التي لا تتوانى عن تسجيل النقاط واحداث الاختراقات في انحاء العالم كافة. فبعد العودة «المدروسة» للمياه الدافئة «أي للشرق الأوسط والتموضع الذكي في بعض دول الخليج على رغم الضغوط الأميركية على أنظمتها، تعود موسكو اليوم لتعزيز مواقعها في القارة الإفريقية، عبر استخدام منطقة المغرب العربي كنقطة، انطلاق. من المتوقع أن تشهد الأشهر القليلة المقبلة، التي ستترافق حتماً مع دخول الشركات الروسية لأسواقها، بروز عمليات اختبار للقوة مع الدول الغربية على أكثر من صعيد ومن مستوى، طاقة مع الولايات المتحدة الأميركية والمستعمرين السابقين لهذه القارة، الفرنسيون طليعتهم. فاختيار دولة جنوب إفريقيا والتقارب المذهل مع أكبر دولتين في شمال إفريقيا، الجزائر والمغرب، لابد ان يزيد من حدة التنافس القائم حالياً ولو بشكل مستتر.
يبقى السؤال فيما إذا كانت روسيا بوتين تملك إمكانات لتحقيق استراتيجيتها وسياساتها كل المؤشرات تقول بنعم، بدءاً من تسديد موسكو المسبق لجميع ديونها الخارجية وسروراً بالعودة لتسويق صناعاتها العسكرية ودخولها ميدان المنافسة في قطاع الطاقة والمال والأعمال ما يترك لبوتين هوامش من المناورة كي يتحرك بحرية أكبر ويفرض نفسه وبلده أكثر فأكثر. هذا ما شهدناه في الاجتماع الأخيرة للدول الثماني الذي انعقد في يوليو/ تموز الماضي في سانت بطرسبورغ
العدد 1478 - الجمعة 22 سبتمبر 2006م الموافق 28 شعبان 1427هـ