ما الذي تحضره الولايات المتحدة لعلاقاتها المقبلة مع بكين؟ وما السيناريوهات التي ترسمها واشنطن لتلك العلاقة؟
تتجاذب الإدارة الأميركية رؤيتين غير متجانستين للعلاقة مع الصين. فهناك فريق يرى أن هذه القوة الآسيوية الصاعدة هي الخطر الدولي الجديد على الزعامة الأميركية في العالم، فيما يرى فريق آخر أنها، وبسبب اندماجها شبه الكامل في بوتقة العولمة والاقتصاد العالمي، ومحاولاتها الأخيرة للانضمام إلى اتفاق التجارة الحرة، وإن كان بوضع بعض الشروط التعجيزية، لن يكون من مصلحتها تشكيل محور ضد أمريكا يهدد هذا الاندماج، ولكل من الفريقين حججه القوية.
يأخذ الفريق الأول بالتاريخ الصيني القديم المبني على حضارة الصين القديمة الباحثة دوما عن أراض جديدة للتوسع، ويدمج ذلك مع مجموعة من الحجج المستقاة من الحالة الصينية المعاصرة التي يمكن أن نوجزها في النقاط التالية:
تجمع وثائق الأمن القومي الأمريكي الصادرة منذ العام ، من دون أي استثناء، على أن الصين لن تكون «الحليف الاستراتيجي» للولايات المتحدة، بل خصمها ومنافسها الأول في القرن الحادي والعشرين، والبنتاغون نفسه يبني الآن كل خططه العسكرية على هذا الأساس.
تعتبر الوثيقة الأمنية اليابانية الصادرة حديثاً عن دراسة قامت بها مجموعة من المؤسسات اليابانية، وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة، أن الصين «تشكـل مصدر قلق للأمن القومي الياباني»، وهذه حصيلة ستكون لها مضاعفات كبرى على مسألة إعادة تسليح اليابان بدعم أميركي.
تهدف محاولات واشنطن الحثيثة لإنهاء ورطة الهند مع باكستان في جنوب آسيا إلى تحويل الهند إلى قوة كبرى قادرة على موازنة الصين في شرق آسيا.
تتصاعد الجهود الأميركية المكثفة لتطويق الصين بقواعد عسكرية في كل مكان: من بحر الصين وتايوان واليابان، إلى بحر قزوين وجمهوريات آسيا الوسطى، مروراً بمحاولة إجهاض كل مساعي الصين لتأمين خطوط إمدادات طاقة آمنة لاقتصادها السائر نحو العملقة. وتعلق دورية «فورين أفيرز» على هذه المعطيات بقولها: «إن انتقال القوة من الغرب إلى الشرق، يحث الخطى بشكل سريع، وسيغيـر قريباً، على نحو درامي، إطار التعاطي مع التحديات الدولية».
تلك كانت منطلقات وحجج الفريق الأول ذي النزعة العدوانية تجاه ما بات يعرف في أوساط الدوائر الحاكمة في واشنطن باسم «المسألة الصينية».
لكن ما الذي تحمله جعبة الفريق الثاني؟
يبدو الطرف الآخر أقل قلقاً بكثير من الأول. فهو على ثقة كاملة بأن القوة الأمريكية الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ستبقى كاسحة إلى درجة تمنع الصين، أو حتى أي ائتلاف بين الدول الكبرى، من تحد للزعامة الأميركية لعقود عدة من الآن. لذا، يدعو هذا الفريق إلى مواصلة العمل لدمج الصين في منظومة النظام العالمي بدل استعدائها.
وأبرز منظـري هذا الفريق هو جون إيكنبيري، البروفسور في جامعة جورج تاون، الذي أعد حديثاً دراسة لـ «مجلس الاستخبارات القومي» الأميركي تحت عنوان «ردود الفعل الاستراتيجية على التفوق الأميركي»، ونورد أدناه أبرز النقاط التي وردت فيها:
إن القوة العالمية الأميركية عسكرياً وتكنولوجياً وثقافياً وسياسياً، هي إحدى الحقائق الكبرى لعصرنا، ولم يحدث قبل الآن أن حاز أي بلد على مثل هذه القوة التي لا منازع لها. وقد أدت عولمة الاقتصاد العالمي إلى تعزيز الهيمنة الاقتصادية والسياسية الأميركية، من دون أن يبرز في وجهها أي منافس إيديولوجي.
إن صعود ما أصبح متعارفاً عليه بـ «الآحادية القطبية» الأميركية قد زعزع السياسات العالمية، وجعل كل الدول الأخرى تقلق من اللا أمن الذي يتدفّـق من الفجوة الهائلة بين قوتها والقوة الأميركية. وهكذا، وجد العالم نفسه الآن في خِـضم عملية تأقلم كبرى، إذ تحاول الدول معرفة كيف سيعمل نظام عالمي مركزه قطبية أميركية آحادية، وكيف ستستخدم الولايات المتحدة قوتها الفائقة.
من غير المرجح، أن تثير الآحادية القطبية الأميركية رداً تقليدياً شاملاً، يستند إلى مبدأ ميزان القوى. الدول الكبرى (روسيا، والصين، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، واليابان) ستحاول المقاومة أو التحايل أو مجابهة القوة الأميركية، حتى وهي منغمسة في العمل معها، لكن من غير المحتمل أن تنتظم هذه القوى في تحالف مناوئ لأميركا يقسم العالم إلى معسكرات متصارعة ومتنافسة. لماذا؟ لأن الظروف التي كانت تسمح بتطبيق مبدأ ميزان القوى الذي تتحالف فيه القوى الضعيفة ضد القوة الأقوى، لم تعد متوافرة. لم يعد من الممكن الآن جمع قوى كبرى في ائتلاف لتحدي الولايات المتحدة، وأيضاً لأن القوة الأميركية نفسها لا تثير تهديدات بما فيه الكفاية تدفع باتجاه العمل لخلق ميزان قوى معها.
ولأن الدول الكبرى الأخرى ستجد صعوبة في تحدي القوة الأميركية، فإنها ستلجأ إلى استراتيجية من عنصرين: الأول، الاعتراض على بعض السياسات الأميركية بهدف الحصول على مكاسب أكبر أو المشاركة الجزئية في القرار الأميركي (كما تفعل الآن روسيا والصين وفرنسا). والثاني، الرضوخ والاسترضاء في إطار ما يُـسمى «bandwagonning»، أي الانضمام إلى الفريق الرابح، (كما تفعل بريطانيا ومعظم دول العالم). وفي كلا هاتين الحالتين، لن يكون ثمة مجال في الأمد المنظور لبروز قوة كبرى أو تحالف دول لتحدي زعامة الأحادية القطبية الأميركية.
لكن لو حاولنا عدم حصر موضوع الصين في الدوائر الرسمية، فسنجد أن الكثير من الباحثين والسياسيين البعيدين عن العلاقة المبائرة مع أصحاب القرار الأميركيين يفجّـرون بدورهم قنابل صوتية قوية تتوقع هي الأخرى اندلاع لهيب المجابهة بين واشنطن وبكين.
على سبيل المثال، في مطلع شهر يونيو/ حزيران الماضي، نشرت مجلة أتلانتيك مانثلي (Atlantic Monthly) الأميركية دراسة مطولة لمنظـر المحافظين الجدد، روبرت كابلان، شدد فيها على أن الحرب الباردة باتت حتمية بين البلدين بسبب رغبة الصين في تحقيق تطلعاتها ومصالحها كقوة كبرى صاعدة من جهة، ولرفض الدولة العظمى، أميركا، التخلي لأي كان عن بعض مناطق نفوذها العالمي من جهة أخرى.
ويضيف كابلان قائلاً: «إذا ما وضعنا في الاعتبار ما يعلمنا إياه التاريخ عن النزاعات التي تنشب عادة بين الدول الكبرى، سنتأكد حينها أن النتيجة ستكون إما حرباً أميركية ساخنة كبيرة مع الصين، أو سلسلة من المجابهات على نمط الحرب الباردة التي ستستمر لعقود طويلة».
هكذا تكلم كبلان. لكنه لم يكن البلبل المغرد الوحيد بلغة الحرب، إذ سبقته دورية فورين أفيرز (Foreign Affairs) الرزينة لتحذر للمرة الأولى من أن «انتقال القوة من الغرب إلى الشرق، يحث الخطى بشكل سريع وسيغير قريباً على نحو درامي، إطار التعاطي مع التحديات الدولية. الكثير في الغرب واعون سلفاً لنمو قوة الصين، بيد أن هذا الوعي لم يُـترجم نفسه إلى استعداد، وهنا يكمـن مكمـن الخطر بأن تكرر القوى الغربية أخطاء الماضي».
بعد كل ذلك نعود إلى السؤال الذي أثرناه في مطلع هذا المقال: أي الفريقين ستكون له اليد العليا في أميركا؟ ما لم تنشب أزمة كبرى مفاجئة في شرق آسيا، أو يحدث انقلاب ما في التوجهات الاستراتيجية الصينية من التركيز على الاقتصاد إلى الاهتمام بالسياسة، سيكون الفريق الثاني هو السائد، وسيواصل دفع الولايات المتحدة للعمل على إغراء الصين، اقتصادياً، لحثها على البقاء في الفلك الأميركي سياسياً واستراتيجياً، وهذه الحصيلة يعززها الاعتماد المتبادل بشكل متزايد الذي بدأ يظهره الاقتصاد، الصيني والأميركي، إزاء بعضهما بعضاً، وأيضاً السهولة التي بات يحل بها قادة البلدين خلافاتهما السياسية، كما حدث حديثاً في قمة واشنطن الصينية - الأميركية التي أنتجت الاتفاق المبدئي على تجريد كوريا الشمالية من سلاحها النووي.
مع ذلك، يبقى السؤال الكبير: هل يمكن لهذا «الوفاق الودي» بين أميركا والصين أن يدوم على المدى الطويل؟ وهل ستكون الولايات المتحدة قادرة بعد سنوات، مثلاً، على مواصلة وضع الصين في القفص، على رغم أن حجم هذه الأخيرة سيكون حينها أكبر بكثير من هذا القفص؟
طبيعة الإجابة على هذا السؤال ستحدد (كما قال مرة بيل كلينتون ، عن حق) طبيعة صراعات القرن الحادي والعشرين برمـته
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1478 - الجمعة 22 سبتمبر 2006م الموافق 28 شعبان 1427هـ