تعتزم «المجموعة العربية» في مجلس الأمن تقديم مبادرة تقترح إعادة احياء عملية السلام. مناسبة المبادرة هي الحرب العدوانية الأميركية - الإسرائيلية على لبنان التي ابتدأت في 12 يوليو/ تموز الماضي وانتهت بوقف النار في 14 أغسطس/ آب الماضي وصدور القرار الدولي 1701.
الحرب العدوانية إذاً كانت السبب الذي حرك المجموعة العربية لإطلاق مبادرة «إعادة احياء السلام»، بعد جمود طويل خيم على أجواء المنطقة التي دخلت في مسار مختلف بعد غزو العراق في العام 2003.
إلا أن ردود الفعل على المبادرة العربية كانت بادرة ولم تتفاعل معها الأطراف المعنية بها من واشنطن إلى تل أبيب. حتى أن مجلس الأمن أخذ علماً بالفكرة ولم يتحرك بدوره لإصدار قرار بشأن المبادرة وتحويلها إلى مشروع سياسي تعتمده الدول العربية و«إسرائيل» إطارا للتفاوض.
المسألة إذاً حتى الآن شكلية ومجرد «رفع عتب» مقابل سياسة أميركية اتسمت عموماً بمجاملة المصالح العربية والدعم المطلق للعدوان الإسرائيلي على فلسطين ودول الجوار.
هذا التعامل الاستعلائي من قبل التحالف الأميركي - الإسرائيلي يطرح السؤال عن معنى «احياء عملية السلام» في ظروف دولية وعربية وإقليمية غير مناسبة؟ فهل اخطأت الدول العربية في إعلان المبادرة أم أنها أرادت توجيه رسالة عن استعداد العالم العربي للتفاوض وعلى الطرف المعني أن يستغل الفرصة التي لا تتكرر دائماً؟
الدول العربية أحسنت التصرف وهي اعطت إشارة إيجابية تجدد تمسكها بالسلام وذاك المشروع الذي طرح في قمة بيروت في العام 2002. المشكلة ليست في الجانب العربي وانما في «إسرائيل» التي أظهرت ممانعة من خلال ردودها العنيفة على كل التنازلات العربية عن الحقوق. ففي العام 2002 ردت على مشروع مبادرة قمة بيروت بالهجوم على الأراضي الفلسطينية وإعادة احتلال المناطق التي انسحبت منها بناء على «اتفاق أوسلو» وحاصرت الرئيس ياسر عرفات في مقره في رام الله إلى يوم رحيله. فالرد الصهيوني على المبادرة العربية شكل انتكاسة سياسية للشعب الفلسطيني.
آنذاك ادعت تل أبيب أن عرفات يؤيد من «تحت الطاولة» الأعمال المسلحة ولا يشكل الطرف المناسب للتفاوض مشيرة إلى أن محمود عباس (أبومازن) هو الوجه المقبول لإعادة احياء عملية السلام. ورحل عرفات وجاء عباس وكررت «إسرائيل» الذرائع نفسها وأخذت تماطل وتتهرب وتشترط على الرئيس الفلسطيني البديل أن ينخرط في حرب أهلية للقبول به كطرف صالح للثقة. وهكذا عادت تل أبيب إلى ممارسة الآلاعيب التي سبق أن افتعلتها ضد عرفات. وبسبب الرفض الإسرائيلي للتفاوض المستقيم مع عباس تدهور حال الشعب الفلسطيني وانهارت ثقته بالسلام الموعود، الأمر الذي انعكس على الانتخابات التشريعية وفازت «حماس» بالغالبية البرلمانية.
تذرعت تل أبيب بهذه المتغيرات معتبرة وصول حركة سياسية لا تعترف بالكيان العبري خطوة انقلابية على «اتفاق أوسلو». وتحت هذا السقف تحركت دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لتفرض الحصار على الناس وتعاقب الشعب الفلسطيني على خياراته الديمقراطية.
حتى الآن لايزال الحصار الاقتصادي والمالي والسياسي تضربه «إسرائيل» على الأراضي المحتلة بدعم من معظم دول الغرب بذرائع مختلقة تشير في جوهرها إلى هذا الانحياز المخيف لتل أبيب والظلم المريع للشعب الفلسطيني. ولاشك في أن المواقف الأميركية - الأوروبية تمثل حماية دولية للسياسة الصهيونية الرافضة للسلام والمبادرات العربية المتكررة للتفاوض. فهذه المواقف شكلت أساساً لكل المناورات الإسرائيلية وقدمت الغطاء القانوني لكل المخالفات التي ارتكبتها تل أبيب منذ اقتحام ارييل شارون حرمة المسجد الأقصى في القدس مروراً ببناء جدار الفصل العنصري في داخل الاراضي الفلسطينية وانتهاء بإعادة احتلال بعض المناطق وبناء مستوطنات وتوسيع أخرى بهدف تقطيع أوصال المدن ومنع اتصالها حتى لا تقوم سلطة قابلة للحياة.
هذه المواقف تعتبر السبب الفعلي الذي يعطي دولة معتدية القوة القانونية للنهوض في وجه 22 دولة عربية تنتشر جغرافياً من المحيط إلى الخليج. ولولا وجود هذا الغطاء الدولي - الأميركي لكان من الصعب على «إسرائيل» التشاوف والتكبر والتطاول على دول عربية تمتلك من الإمكانات والطاقات ما يكفي من عناصر القوة للدفاع عن مصالحها وسيادتها وسمعتها وشرفها.
المشكلة معقدة
المشكلة إذاً، وفي هذا المعنى السياسي، معقدة فهي ليست بين الجانب الإسرائيلي والطرف الفلسطيني فقط وانما بين الجانب العربي والأطراف الدولية (الأميركية - الأوروبية) أيضاً. وهذا التداخل يعطي فكرة عامة عن طبيعة الصراع في المنطقة ويشير بوضوح إلى موقع «إسرائيل» في المشروع الغربي (الأميركي) ووظيفة هذه الدولة المصطنعة ودورها الخاص في تعطيل نمو المنطقة من خلال تعريضها إلى «حروب دائمة» وانقلابات مضادة منذ 58 عاماً. فهذه الدولة المزروعة في بيئة جغرافية غير مناسبة لها وفي إطار ثقافي لا يتجانس مع تركيبها العنصري وخطابها الشوفيني تأسست أصلاً وفق معايير مضادة للفضاءات العربية/ الإسلامية ولحسابات استراتيجية تتجاوز حدود «وعد بلفور» الذي أعطى حق النزوح للمجموعات اليهودية في العالم للاستيلاء على أرض ليست لهم.
الدولة الإسرائيلية هي «يهودية» في تركيبها البشري ولكنها في بعدها الاستراتيجي تعتبر مؤسسة تابعة للسياسة الدولية التي تحرك واشنطن الآن خيوطها بهذا الاتجاه أو ذاك. ولهذه الوظائف سلسلة أدوار منها اضعاف الدول العربية وتعريض أمنها للمخاطر ومنعها من التقدم أو تحقيق خطوات مطلوبة للنمو والاستقرار.
قرار الحرب أو السلم إذاً ليس صهيونياً بالكامل. فالدولة العبرية هي شريك الاستراتيجية الأميركية الدائم ولكنها لا تملك حق التصرف ولا تستطيع اتخاذ قرارات حاسمة إلى هذه الجهة أو تلك من دون العودة إلى صاحب الشأن والمرجع النهائي في الموضوع. ولهذه الأسباب يمكن أن نفهم تلك التصريحات الإسرائيلية المتقطعة التي أشارت مراراً إلى دور الولايات المتحدة في منع تل أبيب من التجاوب مع مبادرات السلم العربية منها تلك التي جرت في بيروت أو المحاولة الأخيرة التي أقدمت عليها المجموعة العربية في مجلس الأمن.
القرار لا تملكه «إسرائيل» وحكومتها تتحرك وفق الاملاءات والشروط والايحاءات الأميركية وهذا ما حصل حديثاً حين بدأت حكومة ايهود أولمرت حربها التدميرية على لبنان بذريعة الإفراج عن جنديين مخطوفين. كذلك يمكن رؤية السياسة نفسها من خلال حرب التقويض التي شنتها حكومة أولمرت على قطاع غزة بذريعة الإفراج عن الجندي المخطوف. فالحرب على الفلسطين المعطوفة على حرب أخرى على اللبنانيين جاءت بناء على تصورات أميركية وتوجيهات مباشرة من واشنطن. وهذا ما يفتح الموضوع على باب جديد وهو ماذا تريد الولايات المتحدة من المنطقة وما مصير دولها في ضوء الكلام الذي رددته وزيرة الخارجية عن «مخاض الشرق الأوسط الجديد».
الموضوع إذاً كبير ويتعدى حدود غزة وجنوب لبنان. وهو في النهاية يتعلق بوظيفة «إسرائيل» ودورها الخاص في المشروع الأميركي. عملياً تدهورت مكانة الدولة العبرية وتقلصت أهميتها الاستراتيجية بعد نزول القوات الأميركية رسمياً في المنطقة في العام 1990 بذريعة «تحرير» الكويت. ومنذ تلك اللحظة فقدت تل أبيب زمام المبادرة وتحولت إلى شرطي في دائرة جغرافية موسعة في اعتبار أن الوكالة العسكرية انتقلت إلى الطرف الأصيل في المعادلة. وبوجود الجيوش الأميركية لم تعد «إسرائيل» تلك القوة العسكرية التي تعتمد عليها اللوبيات (المافيات) النفطية ومؤسسات التصنيع الحربي بل أصبحت تل أبيب تعتمد على القوة الأميركية لإبعاد شبح الخطر الأمني الذي يفترض أنه يأتي من المحيط العربي/ الإسلامي.
بناء على هذه المتغيرات الجيوبوليتكية (الجغرافية/ السياسية) يمكن فهم لماذا قررت أميركا الحرب على العراق بذريعة وجود «أسلحة دمار شامل»؟ ونفهم أيضاً لماذا قوضت الدولة وبعثرت الجيش وفككت كل الأجهزة والمؤسسات وعرضت الشعب العراقي إلى حال من الفوضى الطائفية والمذهبية التي تذهب بسببها شهرياً أكثر من ألف ضحية؟
منذ مطلع تسعينات القرن الماضي اختلفت المعادلة وانقلبت الأدوار. فأميركا لا تريد السلام و«إسرائيل» تجد ضمانتها الاستراتيجية في وجود الجيوش الأجنبية المنتشرة من بلاد الرافدين إلى القرى الأمامية في جنوب لبنان. وفي هذا الإطار يمكن وضع نتائج مبادرة «المجموعة العربية». فالتعامل الأميركي - الإسرائيلي مع فكرة «إعادة احياء عملية السلام» كان بارداً. والبرودة حين تشتد في جانب معين فمعنى ذلك أن الحرارة يتوقع لها أن ترتفع في جانب آخر
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1478 - الجمعة 22 سبتمبر 2006م الموافق 28 شعبان 1427هـ