قلت في مقال سابق إن الفهم الديني الذي يقف عاجزاً عن تغيير الدنيا الى الأفضل لن يكون قادراً على صنع حياة أخروية فاضلة وذلك لأن الآخرة هي ديمومة للحال الدنيوية ولكن في عالم آخر، وقد أوضح القرآن هذه الحقيقة بقوله: «ووجدوا ما عملوا حاضراً» (الكهف: 49). لذلك فمن الواضح أن الفتن الدينية لن تتحول إلى سلام في الآخرة والكراهية لن تتحول إلى محبة وصفاء والدماء المراقة لن تتحول إلى ورود جميلة.
وقبل أيام صدرت عن بابا الفاتيكان تصريحات عن الإسلام هي تعبير صارخ عن الكراهية الماضوية المتوارثة بين المسيحية والإسلام وخصوصاً أنه استشهد بمقولات من أعماق تاريخ الصراع، ولاشك في أن تلك التصريحات حتى لو أعقبها اعتذار شخصي من البابا نفسه ستبقى دلالاتها الجدية فاعلة في الأجواء الدينية والسياسية وبالتالي الحضارية وستقيد في سجل الصدام الديني والحضاري بين المعسكرين الإسلامي والمسيحي وهي لاشك ستساهم في شدة الإحباط لدى المهتمين في مجالات حوار الأديان والحضارات، وهذه في نظري مناسبة للتساؤل عن المقصد الأصلي للأديان فهو ليس إيجاد العصبية والكراهية بين البشر قطعا ولكنهما حصلا ويحصلان بين أتباعها دائماً! وهذا يقودنا إلى سؤال فلسفي وهو: كيف ينتصر الشر الذي هو إرادة الشيطان على الخير الذي هو إرادة الله؟ وقد سألني يوماً سائل عن الآية «يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون» (يس: 30)، وقال هل هي إعلان رسمي عن انتصار الشر في الإنسان الذي هو خلق الله وتحت حمايته؟ فقلت له شبيه هذا النص تجده مكرراً في النصوص المقدسة قبل الإسلام أيضاً كما في الرسالة الأولى من رسائل يوحنا «ونحن واثقون أيضاً بأننا من الله وأن العالم كله خاضع لسيطرة إبليس الشرير» وقد عالج الفلاسفة قديماً وحديثاً قضية وجود الشر في العالم من جوانب مختلفة وقد طرح هذا السؤال بقوة الكاتب الأميركي ولتر ستيس في كتابه« الدين والعقل الحديث» ترجمة رئيس قسم الفلسفة بجامعة الكويت إمام عبدالفتاح إمام، ولكن المهم جداً في هذه القضية هو أن الله وعد بانتصار الخير في النهاية «ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين» (القصص: 5) فالخير سينتصر في نهاية المطاف ولكن بأية آلية؟ إن القرآن يخبرنا أن ذلك سيتم على يد الإنسان نفسه - «وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم» (محمد: 38)، فالمشاركة في صنع هذه النتيجة ستكون بإرادة الإنسان وحسن اختياره، وهذه الحقيقة - لاشك - تجعل على عاتق الإنسان مسئولية البحث عن آليات المشاركة في الانتصار النهائي للخير، وفي نظري ان الخطوة الأولى لذلك هي البحث عن الطرق الممكنة للاستخدام الإيجابي للدين في الحياة، فالدين كان ولايزال سلاحاً ذا حدين وقد استخدم الإنسان في معظم تاريخه الوجه السلبي له فطحنت الجماجم واستبيحت الأعراض وانتهكت الذمم تحت راية الدين والمذهب فهل آن الأوان لتسخير الجوانب الإنسانية في الدين للخروج من المأزق الخطير الذي وقع فيه الإنسان؟
وإذا نظرنا إلى منطقة الشرق الأوسط فقط فسنجد أنه قد وقعت خلال العقود القليلة الماضية حروب ثلاث على الأقل ذات طابع ديني آخرها الحرب الأخيرة على العراق والتي قال عنها الكاوبوي بوش إنها حرب صليبية، وقد قال لي صديق أميركي بعدها إن بوش معروف لدينا نحن الأميركيين بأنه من النوع الذي حذاؤه في فمه أي لا يعي ما يقول وكثيراً ما يخطأ في الكلام ثم يضطر المحيطون به إلى التصحيح ولكني شخصياً لا أعتقد أن هذه الواحدة صادرة عن حذائه الذي في فمه وذلك لأن التحالف الوثيق في هذه الحرب بين معسكر بوش وبين اليمين المسيحي المتطرف يعطيها دلالة دينية غير قابلة للإنكار وإن كان ذلك لا ينفي وجود دلالات أخرى مضافاً إلى طابعها الديني، ثم هل يصدق أحد أن كلام البابا المشار اليه في أول المقال هفوة لسان؟ كيف ذلك وهو يمثل قمة الوعي المسيحي لمرحلة العلاقة الدينية الراهنة مع الإسلام؟ والتي هي علاقة لم تعرف التفاهم أبدا وإن مرت ببعض فترات الهدنة.
وعندما نتحدث عن الاستخدام الإيجابي للدين فإن النقطة الفاصلة هي معالجة المعوقات الجدية أمام حوار الأديان والحضارات والتي يستحيل في نظري تخطيها جميعا ولكن من المفيد محاولة التخفيف من أضرارها والتي من أبرزها وجود تفسيرات مختلفة للدين الواحد فمن يحاور من؟ ومن الذي له حق تمثيل الدين؟ إذ نجد في الدين الواحد تفسيرات معتدلة تميل الى المسالمة والتعايش على أسس الاحترام المتبادل بين الأديان والمجادلة بالتي هي أحسن ولكن توجد أيضاً تفسيرات ترفض ذلك وتقول إن الدين الحق لا يمكن أن يتساوى مع الأديان الباطلة فيجب أن يتمايز أهل الحق عن أهل الباطل بالولاء لأهل الحق قولاً وفعلاً والبراء من أهل الباطل قولاً وفعلاً!
وكذلك نجد الأكثر في العالم الإسلامي ينادي بربط الدين بالسياسة والأقل ينادي بالتفكيك بينهما ولكل واحد منهما حجته وطريقته الخاصة في فهم الدين فالأولون يقولون إن الله هو الأعرف بمصلحة الإنسان من الإنسان نفسه فهو الأحق بوضع نظام حياته والآخرون يقولون إن النص الديني ثابت والإنسان كائن متحرك في لغته وثقافته فكيف يرتهن المتحرك بالثابت؟ ويستتبع هذا الاختلاف اختلاف في دور عالم الدين في الحياة فالأولون يستنتجون من دخالة الدين في نظام الحياة أولوية عالم الدين بالتنظير والحكم لأنه سيكون الأقدر على التدبير المنسجم مع الدين والآخرون يتشبثون بزعم التضاد بين تقدس عالم الدين من حيث نسبته لله والدين وبين استحالة التقديس في مدبري السياسة العامة واقتضاءاتها البشرية ويقولون لقد وقعنا في عقد مستعصية منذ تزعم علماء الدين السياسة اليومية من حيث إصرارهم الى جنب ذلك على الاحتفاظ بميزات القداسة وتبعية الناس لهم في كل ما يقولون بعنوان التقليد الشرعي فلا هم حافظوا على مقتضيات القداسة ولا هم قبلوا بالنزول إلى مستوى النشطاء العاديين حيث يجوز نقدهم وتخطئتهم من دون أن يستتبع ذلك تجريم إلهي.
ومازال هذا الجدل بكل استتباعاته جارياً في العالم الإسلامي ولم ينته بعد بل يمكن القول إنه لم يبدأ بشكل جاد وذلك لأن منظري الخط الأول يملكون السلطة الفائقة على إسكات الخط الثاني وعزله عن الوجدان العام بكل اقتدار، ولكن هذا الجدل في الغرب قد انحسر منذ أمد بعيد وذلك بعد معارك طويلة ودامية انتهت بانتصار المعسكر الليبرالي انتصاراً حاسماً بحيث أصبح لا يوجد لهذا الجدل هناك إلا بعض بقاياه القليلة، وهنا يبرز أحد أهم إشكالات الفهم بين الحضارتين الغربية والإسلامية وهو اختلاف الوعي العام لعلاقة الدين بالحياة وبالتالي اختلاف الخطاب في اللغة والمضمون، فنجد مثلاً أن اصطلاح العلمانية يستدعي في الوعي الغربي مفاهيم إيجابية مثل حرية الفكر والاعتقاد على أساس أنها حق أولي للإنسان ولكنها في العالم الإسلامي مشحونة بدلالات سلبية جداً وتساوق التنكر للدين وقد يكون الإلحاد، ومن هنا فإنه لا يمكن في المرحلة الحالية أن يوجد حوار حقيقي بين الغرب والعالم الإسلامي نظراً إلى اختلاف المنهجية الفكرية أصلاً، أضف الى ذلك التاريخ الطويل من الصدام والصراع بين أتباع الأديان والطوائف والذي يصعب حذفه من الذاكرة مهما تقدمنا تجاه حوار الأديان والحضارات، بل نجد أن المسافة بين المسيحية والإسلام تتسع في عصرنا الحاضر وذلك لاشتغال الشحن المتبادل بين السلفية الإسلامية وبين اليمين المسيحي ولا أمل في التخفيف من حدة هذا التجاذب في الأمد القريب ولعل ذلك ينذر بكوارث لا أحد يعلم مداها ولعلنا موعودون بحروب صليبية قذرة قد بدأت ميدانياً في فلسطين والعراق ويشارك الطرفان في تأجيجها، والملفت هو أن كل واحد منهما يجر معه تراثه المقدس على أنه الدليل الناصع على أحقيته من دون أن يفكر أي منهما في نقد تراثه فلعله يشتمل على الكثير من الزيف والمغالطات والخلل؟ ولكن لا صوت يعلو على صوت المعركة!
وإن كنا هنا يجب أن نسجل بأن الغرب المسيحي تقدم على العالم الإسلامي في علاقاته الداخلية البينية فهو وإن بقي سجين ماضويته في علاقته بالعالم الإسلامي واحتفظ بصور الحروب الصليبية محفورة عميقاً في ذاكرته ولكنه استطاع أن يتجاوز الى حد بعيد ماضيه الدامي داخل معسكره وانطلق الى حاضر جديد ومستقبل واعد ولكن العالم الإسلامي ماذا صنع؟ لم يتجاوز ذاكرة الصراع المريرة على مستوى جبهته الخارجية وهذا قد يكون مبررا لأن الطرف الآخر بقي محتفظا بالموقف نفسه في قباله ولكن الأمر المؤسف حقاً أنه في جبهته الداخلية ليس فقط لم يتجاوز ماضويته الطوائفية والمذهبية بل هو يسير نحو تشديد الصراع وإشعال الفتن، فما تلك الدماء الغزيرة التي تهدر يوميا في العراق؟ وما الذي يجري بصمت مفضوح في السعودية وإيران ومصر والبحرين ودول إسلامية أخرى؟
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1477 - الخميس 21 سبتمبر 2006م الموافق 27 شعبان 1427هـ