نستقبل شهر رمضان الكريم، الذي يمثل (ربيع القرآن) إذ جرت العادة الإسلامية النبيلة في الحرص على تلاوة القرآن وتدبره... امتثالاً للتوجيهات الربانية والنبوية في زيادة الاهتمام بالقرآن على الصعيدين معاً. ولعل ثمة ارتباطاً تكوينياً غيبياً بين القرآن وشهر رمضان دعا اللطيف الخبير إلى إنزاله فيه أولاً «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ» (البقرة:185)، وإلى الأمر بتلاوته وتدبره ثانياً على لسان نبيه الذي وصفه ربه تعالى بأنه «رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ» (التوبة:128).
وإذا ما عدنا إلى القرآن الكريم لتلمس السبب الكامن وراء هذا الاهتمام فسنجده يتلخص في طبيعة القرآن الكريم الذي هو في ذاته أَحْسَنَ الحدِيثِ من جهة، ويحمل في جنباته القدرة على التأثير في الإنسان الطالب للحوق بمستوى تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ شعوراً منهم بالتفاعل من جهة ثانية، وبثقل المسئولية من جهة ثالثة، لينتهي بهم المطاف إلى التسليم بين يدي الله «ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ» «الزمر: 23» من جهة رابعة، حيث تحط سفن قلقهم على سواحل اطمئنانه بعد تطواف ممتد فـ «ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ» (الزمر:23) من جهة خامسة.
إذاً، نحن بين طرفين تحكمهما علاقة تفاعلية، او هكذا يجب أن تكون، يمثل القرآن فيها (الرسالة) والقارئ يمثل (المتلقي) يفيد من الرسالة بقدر (التفاعل). الذي يمر بمراحل تتلخص في: التلاوة، ثم التدبر، انتهاء بالتطبيق.
ولنتوقف عند نصين اثنين نتبين منهما (موسمية شهر رمضان للقرآن) تلاوة وتدبراً:
النص الأول: عن الإمام محمد الباقر (ع) قال: «لكل شيء ربيع وربيع القرآن شهر رمضان».
فالنص يشير إلى أن الزمن ليست له قيمة واحدة لكل شيء، بل إنها تتفاوت من فترة إلى أخرى، فكما أن فترة الشباب تعد ذهبية في العمر البشري ليست كالكهولة والشيخوخة وبطبيعة الحال ليست كالطفولة. كذلك إن شهر رمضان، بما يحيط به من هالة روحية في ذاته، ونفسية لدى القارئ، وبما يكتنفه من أجواء اجتماعية ترق فيه النفوس والأرواح، علاوة على العلاقة التكوينية آنفة الذكر، كل ذلك يجعل الإنسان، وهو القارئ للقرآن، أقرب إلى التفاعل مع القرآن على مستوى تلاوته وتدبره وتطبيق مضامينه على مختلف جوانب حياته.
النص الثاني: عن عبد السلام بن صالح الهروي قال: «دخلت على أبي الحسن علي بن موسى الرضا (ع)، في آخر جمعة من شعبان، فقال لي: يا أبا الصلت إن شعبان قد مضى أكثره، وهذا آخر جمعة منه، فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه. وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك، وأكثِر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله عليك وأنت مخلص لله عز وجل، ولا تدعن أمانة في عنقك إلا أديتها، ولا في قلبك حقداً على مؤمن إلا نزعته، ولا ذنباً أنت ترتكبه إلا أقلعت عنه. واتق الله وتوكل عليه في سرائرك وعلانيتك، «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» (الطلاق:3). وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر: اللهم إن لم تكن غفرت لنا فيما مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي منه، فإن الله تبارك وتعالى يعتق في هذا الشهر رقاباً من النار لحرمة شهر رمضان».
والنص، لوضوحه، لا يحتاج إلى تعليق، إلا أننا نقف عند تأكيد الإمام الرضا (ع) (تلاوة القرآن) كمحطة لا ينبغي للمسلم، وهو الحريص دائماً على مصلحته الحقيقية، أن يهملها. ولعل السر يكمن في: أن تلاوة القرآن تعد باباً من أبواب المنة الإلهية التي فتحت لنيل الخشية والخشوع وللحصول على الاطمئنان والاستقرار المنشود للذات الإنسانية.
هذان النصان الشريفان، وغيرهما كثيرٌ، يؤكدان أن (موسمية شهر رمضان) للقرآن الكريم أمر لا يقبل الإنكار.
ماذا تعني التلاوة؟
الشائع عند الناس أن التلاوة تعني (القراءة) مجردةً، على تفاوتٍ بين الناس في تحسين القراة (التلاوة) وتجويدها، بحسب ما تلقاه هذا وذاك من فن التجويد والتلاوة المعهودة، وحسب اهتمام هذا القارئ وذاك. إلا أننا إذا تتبعنا الاستعمال القرآني لمادة (التلاوة) وكذلك المعنى اللغوي لها، نجد بعداً خفي على كثير من الناس، نتناوله ضمن نقطتين:
1 - التلاوة في اللغة
التلاوة مشتقة من (تلا يتلو) بمعنى تبع، قال تعالى «وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا» (الشمس:2) أي تبعها. فـ (التلاوة)، في اللغة، تعني (الاتباع). وإنما سميت (القراءة) لآيات القرآن (تلاوة) لأن الحروف يتبع بعضها بعضاً. أجل، تطور هذا المعنى اللغوي في المصطلح الشرعي ليختص باتباع معين، قال الراغب الاصفهاني في المفردات: «التلاوة في عرف الشرع تختص باتباع كتب الله المنزلة، تارة بالقراءة، وتارة بامتثال ما فيها من أمر ونهي، وهي أعم من القراءة، فكل قراءة تلاوة من غير عكس».
يتبع الحلقة المقبلة
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حسن النمر"العدد 1477 - الخميس 21 سبتمبر 2006م الموافق 27 شعبان 1427هـ