ترسم حياة الكاتب الروائي المصري نجيب محفوظ، الحائز جائزة نوبل والذي توفي الشهر الماضي، بطرق عدة الارتقاء والانحطاط الذي شهده جيل كامل من المفكرين العرب، بلغوا قمة عطائهم خلال فترة الاستقلال، وتأثروا بالمبادئ والقيم الاشتراكية والقومية على أمل أن تقودهم إلى الرخاء والتميز.
على غرار الكثير من زملائه، أيد نجيب محفوظ مبدأ الفصل بين الدولة والدين المتمثل خلال حقبة الاستقلال بشعار «الدين لله، والوطن للجميع».
وقال الرئيس المصري حسني مبارك بعد وفاته في 30 أغسطس/ آب الماضي: «لقد عبر عن التحرر الفكري والتسامح إلى حد أنه نبذ التطرف، وكان منارة ثقافية أشهرت الأدب العربي في العالم».
لقد أحب محفوظ، الذي اعتبره البعض أباً للرواية العربية، القاهرة أكثر من أي شيء آخر. ونادراً ما غادر مدينته الأم، كما دارت أشهر أعماله وسط أزقة وطرقات القاهرة الإسلامية، واصفاً معالم المدينة وسكانها.
ولكن في النصف الثاني من حياته الطويلة، تلاشت أحلام شبابه العلمانية وآمال تحرر المصريين من الفقر عبر الاستقلال، وذلك بسبب فشل الدولة العلمانية في تحقيق العدالة الاجتماعية وبروز إسلام مسياس.
وشكلت محاولة اغتياله سنة 1994 على يد متطرف، خير دليل على تبدل المجتمع. لطالما عبر عن آراء مثيرة للجدل في ذلك الحين، خصوصا بدعمه لمعاهدة السلام بين مصر و«إسرائيل»، ولكنه كان وجهاً غير بارز يجهله تماماً كل من الحكومة والشعب.
بعد ذلك، انفجرت أعماله الصامتة العام 1988 عندما حاز جائزة نوبل. ولكن في العام التالي نادى الشيخ المصري الكفيف عمر عبدالرحمن، الذي سجن في أميركا لاحقاً بتهمة الاعتداء على مركز التجارة العالمي (ْمَُّم ملفْش لٌُْط) سنة 1993، باغتيال محفوظ خلال مقابلة له.
هل تم اغتيال محفوظ بسبب كتابه الذي حول إلى تمثيلية تلفزيونية «أولاد حارتنا»، الذي يروي قصة والد فقير من القاهرة يمثل الله وأبناءه المسيح، ومحمد، وغيرهما من الأنبياء؟
في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1994، بعدما غادر محفوظ المنزل برفقة صديق له لحضور ديوانه الأسبوعي الشهير مع غيره من الكتاب والمفكرين في قهوة بجانب النيل، قام رجل بطعنه في رقبته. وقال المعتدي، الذي أُعدم لاحقاً، خلال محاكمته أنه تأثر بموقف الشيخ عبدالرحمن.
يقول الكاتب والمترجم الأميركي الذي يعمل حالياً على سيرة محفوظ الذاتية رايموند ستوك: «لقد شكل الهدف الأسهل في مصر، فكان بالنسبة إلى الإسلاميين رمزاً للكفر ودعم (إسرائيل)، وهي الأمور التي يكرهون الحكومة بسببها. لم يتمكنوا من الوصول إلى القادة فلاحقوه».
ولكن محفوظ، الذي عمل كرقيب على الحكومة في سنواته الأولى، أظهر تناقضاً في بعض الأحيان. لقد دعم معاهدة السلام مع «إسرائيل»، ولكنه أيضاً دافع عن استخدام الفلسطينيين للانتحاريين خلال صراعاتهم مع الدولة اليهودية.
وافق «شهيد العبارة الحرة»، كما أسماه البعض بعد طعنه، طوعا مع السلطات الإسلامية في جامعة الأزهر على وقف نشر رواية «أولاد حارتنا»، حتى بعد أن رفعت الحكومة الحظر عنه تبعاً لمحاولة الاغتيال. ويذهب ستوك إلى انه بعد هذا القرار، اتهمه بعض أصدقائه المقربين بخيانة زملائه الكتاب.
ولكنه قرار قدره الإسلاميون. وأصدرت جمعية الإخوان المسلمين المصرية بياناً ناعية رحيله ومثنية عليه بأنه رجل تقي. ويقول العضو في مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين عبدالمنعم أبوالفتوح: «تمثلت الكثير من كتاباته بالخطأ، ولكنا موافقته مع الأزهر على عدم نشر ذلك العمل التجديفي يشير إلى أنه أدرك خطأه».
لقد سببت الطعنة بعدم قدرة محفوظ، البالغ 83 سنة من العمر، على إمساك القلم لسنوات عدة، ولكنها لم تقض على شغفه في التواصل مع أصدقائه وغيرهم من الكتاب. واستمر حتى الشهر الأخير من حياته، في عقد جلساته الأسبوعية، فقد شكل حضوره الساخر والمتواضع الرابط الذي وحد عددا متضائلاً من رجال الفكر المصريين.
يقول ستوك إنه خلال سنواته الأخيرة، كان محفوظ مؤيدا لمبارك إلى حد أنه قام بانتخابه ودعمه علناً خلال الانتخابات الرئاسية التي جرت حديثاً في البلد. وفي المقابل احتضنته الحكومة كشخصية مشهورة، على أمل أن تنعكس نجاحاته عليها. وكان ذلك في سياق الهجوم العنيف الذي شنه على أنور السادات، سلف مبارك، الذي اغتيل على يد الإسلاميين بسبب تحالفه السلمي مع «إسرائيل».
نبذ محفوظ الرئيس السادات بسبب سياسة الانفتاح التي اعتمدها، والتي أنقصت من دور الدولة في اقتصاد مصر وفي تأمين المصالح الاجتماعية، وسمحت بازدياد الاستثمار الأجنبي والخاص. ووصف سياسة السادات بأنها خيانة للاشتراكية التي احتاجت إليها مصر، وبالدافع غير المتعمد لبروز الإسلام الجهادي.
في روايته القصيرة «يوم قتل الزعيم»، حيث ركز على عائلة فقيرة في الأيام التي سبقت اغتيال السادات، يتكلام عن الشدائد وخيبات الأمل التي سببها الفشل الاقتصادي للحكومة، وكيف شعر الكثير من المصريين والعرب أنهم منساقون في عصر حديث لم يثمر إلا القليل.
فبينما استمر في انتقاد تلك السياسات الاقتصادية التي تابعها مبارك، لاحظ أن رئيس مصر الحالي يقوم بالخيار الأفضل. يقول ستوك: «أعتقد أنه يتمتع بفكر واقعي جداً، فقد رأى أن مبارك يطور أفضل ما قام به السادات من خلال إضافاته العظيمة. خلال فترة حكمه، لم تنهر مصر أمام المصاعب الكبيرة ولم يشارك مبارك في أية مجازفات خارجية».
مع ذلك، لم يتخل الكاتب أبداً عن أفكاره الاشتراكية، أو روابطه مع الناس في شوارع القاهرة، حتى أن البارات والمقاهي التي ارتادها في شبابه، إما خصصت للتجارة السياحية وإما تلاشت كلياً.
دان مورفي
مراسل صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور»، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند
إقرأ أيضا لـ "Common Ground"العدد 1477 - الخميس 21 سبتمبر 2006م الموافق 27 شعبان 1427هـ