تناولت الحلقة الأولى طفولة الغزالي وتأثره بالحركة الإصلاحية الدينية وتأثيره عليها ودوره في تشكيل الوعي السياسي الذي ظهر لاحقاً في بلاد المغرب العربي. وتحدثت الحلقة أيضاً عن غموض الجانب السياسي في حياة الغزالي وخصوصاً بعد مغادرته بغداد إلى دمشق وزيارته القدس وثم الاسكندرية وعزمه الذهاب إلى الأندلس.
وتتناول الحلقة الثانية أعمال الغزالي ونشاطه الفكري وأسلوبه في تناول القضايا وتفكيكها وصولاً إلى تأسيسه المنهج المعرفي المستقل للفلسفة الإسلامية.
تطرقت كتب الإمام الغزالي (450 - 505 هجرية 1058 - 1111م) إلى مختلف علوم عصره وردَّ فيها على مختلف المدارس من مذاهب وعلم كلام وفلسفة وصوفية وحركات سياسية وعقائدية. ويصنف الفرق إلى أربع رئيسية، وهي: المتكلمون، الباطنية، الفلاسفة، والصوفية. ويرى أن أساس نشوء علم الكلام كان للرد على أهل البدع «لكنهم اعتمدوا في ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم (...) لكن لما لم يكن ذلك مقصود علمهم لم يبلغ كلامهم فيه الغاية القصوى فلم يحصل منه ما يمحو بالكلية ظلمات الحيرة في اختلافات الخلق». ويستغرب الغزالي إهمال علماء المسلمين موضوع الفلسفة إذ «لم أرَ أحداً من علماء الإسلام صرف عنان عنايته وهمته إلى ذلك». ويقرر التفرغ للرد على الفلسفة وأفكارها ومدارسها ويقسمها إلى ثلاثة أقسام: الدهريون، الطبيعيون، والإلهيون، ويناقش كل فئة على حدة، ثم يرد على علومهم (أدوات تحليلهم وتفكيرهم) ويقسمها إلى ستة أقسام: رياضية ومنطقية وطبيعية وإلهية وسياسية وخلقية. ويناقش كل فرع ويرد عليه. ثم يرد على الباطنية وغيرها انطلاقاً من قاعدة «أن النصوص المتناهية لا تستوعب الوقائع الغير المتناهية». ويؤكد مسألة الاجتهاد و«نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى اليمن وأمره أن يحكم بالنص عند وجود النص، وبالاجتهاد عند عدمه» حتى لو حصل الخطأ «إن المخطئ في الاجتهاد له أجر واحد، وللمصيب أجران». وكما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن المسألة «أنا أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر، أي أنا أحكم بغالب الظن الحاصل من قول الشهود، وربما أخطئ فيه». ويحدد «قواعد العقائد» على أساس الكتاب والسنة والموازين الخمسة. وأخيراً يرد على الصوفية التي يعجب بها وينحاز إليها ويمارسها لأنهم «أرباب الأحوال، لا أصحاب الأقوال». لكنه يحذر من الشطح والتطرف إذ «يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ».
يصنف الغزالي درجات المعرفة بثلاث «التحقق بالبرهان علم، وملابسة عين تلك الحالة ذوق، والقبول من التسامح والتجربة بحسن الظن إيمان». ويرى أن «الشيء يختلف باختلاف الحكم والطالع». ويؤكد أن اليقين لا يحصل «إلا بمعرفة أحواله، إما بالمشاهدة، أو بالتواتر والتسامح». ويرى أن ما وراء العقل «حاكم العقل» أو ما هو «ما وراء العقل». ويسمي العلوم بأسماء مختلفة فهناك العلم الضروري وهناك العلم الحقيقي وهناك العلم اليقيني.
أثارت نقاشات الغزالي ردود فعل كثيرة، الأمر الذي دفع ابن رشد لاحقاً إلى لومه على كشف التأويل ونقله من الخاصة (أهل العلم) إلى العامة (الجمهور) بذريعة أنه «لا يجوز أن يكتب للعامة ما لا يدركونه» لأنه «من أباح التأويل للجمهور فقد أفسده» (فصل المقال ص 52).
ونتيجة هذه السجالات التي خاضها الإمام الغزالي انتهت به مجادلاته إلى تأسيس الاستقلال المعرفي للفلسفة الإسلامية وفك الارتباط التاريخي بين فقه الفلسفة وفلسفة الفقه، إذ وضع خطاً فاصلاً بين تيار فقهاء الفلسفة (الفارابي وابن سينا) وفلاسفة الفقه (أئمة الشرع). وبذلك تأخرت الفلسفة الإسلامية عن غيرها من علوم المعرفة القرآنية في تأكيد خطها المستقل إلى القرن الخامس الهجري بينما كان الفقه تأسس واستقل في القرن الثاني الهجري، وعلوم السياسة والتاريخ في القرنين الثاني والثالث. واستمر الاختلاط في حقول الفلسفة وعلم الكلام والتصوف العقلاني إلى نهاية القرن الخامس الهجري.
نهاية وبداية
ليس مصادفة أن تكون نهاية الفلسفة القديمة وبدايتها الجديدة من صنع رجل واحد هو شيخ الإسلام الغزالي. وليس مصادفة أن يكون مؤسس استقلال الفلسفة الإسلامية الرجل الذي حارب الفلاسفة وقاومهم. كيف حصل الأمر؟
قرأ كثيرون كتاب الغزالي «المنقذ من الضلال والمفصح عن الأحوال» من زاوية سجاله ضد الاتجاهات المضادة للعقيدة في عصره. ومعظم القراءات وجد فيه وسيلة تعليمية لدحض الآراء الأخرى التي أتى على ذكرها شيخ الإسلام في كتابه.
وفي الحقيقة يعتبر الكتاب إذا أخذناه من الناحية المذكورة، من كتبه الضعيفة مقارنة بالأخرى، وخصوصاً «تهافت الفلاسفة» و«إحياء علوم الدين» و«كيمياء السعادة» وغيرها. فالسجال في «المنقذ من الضلال» هو القشرة لأن معظم آراء الإمام نشر في كتبه الأخرى.
تكمن أهمية الكتاب في سجله وليس سجاله. فـ «المنقذ من الضلال» يكشف أساساً حياة شيخ الإسلام الفكرية وأسلوب عمله ونمط اشتغاله في القراءة والكتابة والجدل. ويحوي أيضاً معلومات عن عصره وظروفه. وسنجد فيه أن الإمام كان يعيش حياة قلق وتوتر واضطراب إلى عمل دائب لا يمل في البحث عن الحقيقة والدفاع عن العقيدة. فهو كان يعيش حالات من الهم اليومي والكآبة والسعي المتواصل للمعرفة وفهم كل الميادين وتعلم شتى حقول الفكر والمدارس والمذاهب المنتشرة آنذاك. فالإمام لم يكن مطمئناً إلى المستقبل لذلك لم تفتر همته وتستقر بل اندفع للدفاع عن الحقيقة.
يتحدث الإمام عن «فتور الاعتقاد في أصل النبوة ثم في حقيقة النبوة، ثم في العمل بما شرحته النبوة». إلى أسباب التقصير «في متابعة الشرع» وانتشار الكفر في عصره، يتحدث عن انتشار الفساد و«فلان من المشهورين بين الفضلاء لا يصلي، وفلان يشرب الخمر، وفلان يأكل الأموال من الأوقاف، وأموال اليتامى، وفلان يأكل إدرار السلطان، ولا يحترز عن الحرام، وفلان يأخذ الرشوة على القضاء والشهادة». إلى الفساد يتحدث الإمام عن الإباحية والصوفية والتفلسف وأهل الضياع إذ «يرى الواحد منهم يقرأ القرآن ويحضر الجماعات والصلوات، ويعظم الشريعة بلسانه، ولكنه مع ذلك لا يترك شرب الخمر، وأنواعاً من الفسق والفجور» (ص 94 - 96).
بعد وصف الحال يحدد شيخ الإسلام مهمته ويؤكد «فلما رأيت أصناف الخلق قد ضعف إيمانهم إلى هذا الحد بهذه الأسباب، ورأيت نفسي ملياً (ثقة) بكشف هذه الشبه، حتى كان إفحام هؤلاء أيسر عندي، وأهون من شربة ماء، لكثرة خوضي في علومهم وطرقهم، أعني طرق الصوفية، والفلاسفة، والتعليمية، والمتوسمين من العلماء، انقدح في نفسي أن ذلك متعين في هذا الوقت محتوم، فما تفنيك الخلوة والعزلة، وقد عمَّ الداء، ومرض الأطباء، وأشرف الخلق على الهلاك» (ص 97).
لم يستقر للإمام بال ولم يهدأ في عيشه إلا بعد أن صفى حساباته الفكرية وفند نظريات الخصوم. يشرح شيخ الإسلام أسلوب عمله فيقول في رد على سؤال وجه إليه من أحد تلامذته: «ابتدأت بعلم الكلام، فحصلته وعقلته، وطالعت كتب المحققين منهم، وصنفت ما أردت تصنيفه، فصادفته علماً وافياً بمقصوده، غير واف بمقصودي» (ص 48). ثم «ابتدأت بعد الفراغ من علم الكلام بعلم الفلسفة» (ص 50)، فأقبلت على «ذلك في أوقات فراغي من التدريس والتصنيف في العلوم الشرعية»، وطالعت «في الأوقات المختلسة على منتهى علومهم في أقل من سنتين، ثم لم أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من السنة، أعاوده وأتفقد غوائله وأغواره» (ص 51). ثم «إني لما فرغت من علم الفلسفة، وتحصيله، وفهمه، وتزييف ما يزيف منه، علمت أن ذلك أيضاً غير واف بكمال الغرض، وأن العقل ليس مستقلاً بالإحاطة بجميع المطالب، ولا كاشفاً للغطاء عن جميع المعضلات، وكان قد نبغت نابغة التعليمية، وشاع بين الخلق تحدثهم بمعرفة معنى الأمور من جهة الإمام المعصوم القائم بالحق، عنَّ لي أن أبحث في مقالاتهم، لأطلع على ما في كنانتهم (...) فانتبذت لطلب كتبهم، وجمع مقالاتهم (...) فرتبتها ترتيباً محكماً مقارباً للتحقيق، واستوفيت الجواب عنها» (ص 67). ثم «إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية، وعلمت أن طريقتهم إنما تتم بعلم وعمل (...) وكان العلم أيسر عليَّ من العمل، فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم (...) حتى اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية. وحصلت ما يمكن أن يحصل من طريقهم بالتعلم والسماع، فظهر لي أن أخصّ خواصّهم، ما لا يمكن الوصول إليه بالتعلم، بل بالذوق والحال وتبدل الصفات» (ص 77، 78، 79).
ويجمل الإمام الغزالي حياته الفكرية منذ أن بلغ العشرين إلى أن ناف على الخمسين بأنها حياة بحث واطلاع إذ «كنت أتوغل في كل مظلمة، وأهجم على كل مشكلة، وأقتحم كل ورطة، وأتفحص عن عقيدة كل فرقة، وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة...» (ص 41).
لم يتردد شيخ الإسلام في وصف حاله وضياعه وخصوصاً في مرحلة ممارسته الصوفية وعزلته وزهده وابتعاده عن الناس. ويرسم الإمام الغزالي لحظات مظلمة حين اتخذ قرار مغادرة بغداد وترك التدريس «فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام (...) فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من ستة أشهر (...) إذ أقفل الله عليّ لساني حتى اعتقل عن التدريس (...) فكان لا ينطق لساني بكلمة واحدة ولا أستطيعها البتة، حتى أورثت هذه العقلة في اللسان حزناً في القلب، بطلت معه قوة الهضم، ومراءة الطعام والشراب (...) حتى قطع الأطباء طمعهم من العلاج (...) ففارقت بغداد، وفرقت ما كان معي من المال، ولم أدخر إلا قدر الكفاف (...) (ص 81 و82). فالإمام أصيب بمرض الكآبة لكثرة ما شهده وعاناه من ضيق وانفلات اجتماعي وخلقي.
مكث حجة الإسلام أكثر من 30 سنة في التدريس والقراءة والمتابعة والبحث للدفاع عن العقيدة وتفنيد آراء خصومها حتى أدركه التعب وتملكه العياء وكاد أن يقع في أعراض مرضية يعجز الطب آنذاك عن معالجتها. وأدت مثابرته على العمل والاجتهاد إلى إطلاق أكبر نهضة فكرية في النصف الثاني من القرن الخامس ومطلع القرن السادس الهجري. وعند رحيله في العام 505 هجرية ترك مكتبة من تأليفه أثارت ولاتزال تثير السجال والجدال إلى أيامنا. وينسب إليه 72 كتاباً مقطوع بنسبتها إليه، و23 كتاباً يشك بنسبتها إليه، و32 كتاباً منسوبة إليه، وهناك كتب منحولة عددها 49، ومجهولة 107، ومخطوطات منسوبة إليه وعددها 73 مخطوطاً
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1477 - الخميس 21 سبتمبر 2006م الموافق 27 شعبان 1427هـ