قالت رئيسة وحدة الدراسات الأوروبية الخليجية في جامعة الكويت هيلة حمد المكيمي، «لقد فرضت تغيرات ما بعد الحرب الباردة إعادة هيكلة لمنظمة حلف الشمال الأطلسي (الناتو) من أجل أن تتكيف مع المحيط الدولي الجديد، إذ يرى القائمون على المنظمة أن الخطر التقليدي والمتمثل بالمد السوفياتي تم استبداله بتهديدات جديدة تمثلت بالإرهاب وانتشار أسلحة الدمار الشامل والدولة الفاشلة والجريمة المنظمة والتي تخطت الحدود والقارات».
وأضافت المكيمي «ومن أجل مجابهة تلك التحديات سعت منظمة الناتو إلى إقامة شراكات أمنية متعددة الأطراف بما في ذلك منطقة الشرق الأوسط الكبير، وبعد إطلاق مبادرة الحوار المتوسطي العام 1994، أطلق قادة الحلف في اسطنبول مبادرة جديدة في العام 2004 عرفت بمبادرة اسطنبول للتعاون الأمنيIstanbul Cooperation Initiative ، وهي موجهة إلى دول الشرق الأوسط الكبير، إذ شكلت منطقة الخليج المحطة الأولى لتلك المبادرة والتي تسعى إلى التعاون في المجالات الأمنية والعسكرية المختلفة».
وأوضحت هيلة - في حديثها بعد مشاركتها في مؤتمر «مستقبل الناتو ودول حوض المتوسط والشرق الأوسط» المقام أخيراً في لندن - أنه وبناء على ما سبق سعت المنظمة إلى عقد عدد من الاجتماعات وورش العمل ولاسيما من قبل السياسيين والأكاديميين لمناقشة سبل تفعيل تلك المبادرة والذي نظم بالتعاون بين قسم العلاقات الدبلوماسية في منظمة الناتو والمعهد الملكي البريطاني للدراسات الأمنية والدفاعية. وأشارت إلى أن القائمين على المنظمة شددوا على ضرورة استمرارية الحوار بشأن مستقبل مبادرة اسطنبول ومحاولة تقييم الإنجازات والتحديات التي جابهت تلك المبادرة منذ إطلاقها في العام 2004.
وسعى المؤتمر إلى التركيز على محاور رئيسية وقد تناول المؤتمر خلال انعقاده سلسلة من الجلسات مختلف القضايا الأمنية المتعلقة بمنظمة «الناتو». فقد تناول المشاركون في الجلسة الأولى موضوع «مستقبل الناتو والحوار المتوسطي ومبادرة اسطنبول»، ففي افتتاحية الجلسة، أكد رئيس المعهد البريطاني الملكي للدراسات الأمنية والدفاعية ريتشارد كوبولد، أن إطلاق تلك المبادرات جاء لحدثين رئيسيين شهدهما العالم، الأول تمثل في سقوط الاتحاد السوفياتي واستحقاقات مرحلة ما بعد الحرب الباردة، والثاني كانت حوادث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول وما تبعها من تفجيرات في عدد من الدول الأوروبية والتي خلقت القناعة لدينا كأوروبيين على ضرورة التنسيق مع الدول الحلفاء لمحاربة هذه الظواهر.
ومن جانبه، أكد مساعد السكرتير العام لشئون الدفاع والتخطيط في منظمة الناتو جون كولستون أن إقامة هذا المؤتمر يتزامن والذكرى الخامسة لاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. وقد أثرت تلك الاعتداءات على مفهوم الأمن والذي لم يعد مفهوماً ضيقاً بل أصبح عالمياً، فقد بات العالم أجمع الآن يواجهه خطر التهديدات غير التقليدية، إذ برزت الحاجة إلى الشراكة الأمنية لمجابهة تلك التهديدات. كما أكد ضرورة أن تصاحب تلك الإجراءات الأمنية، حلول لمشكلات عدة كالتفاوت الاقتصادي بين عالم الشمال وعالم الجنوب والهجرة والجريمة المنظمة. وأشار إلى أنه «إذا أراد العالم الغربي أن يحقق تعاوناً ناجحاً لابد من أن تكون الاستفادة للجميع ليضمن تعاون الطرف الآخر».
وفي السياق ذاته، عبّر مدير السياسة في وزارة الدفاع البريطانية ديسموند بووين عن وجهة النظر البريطانية اتجاه مستقبل «الناتو»، إذ أكد أهمية المحيط الاستراتيجي في إحداث تلك التغيرات على المنطقة بحيث أصبحت قضية الأمن وليس الدفاع هي الشغل الشاغل لدى العالم الغربي، ما دفعنا إلى ضرورة التعاون مع دول منطقة الشرق الأوسط إذ بدأت تلك الشراكة بواسطة الحوار المتوسطي ولكن ظلت منطقة الخليج الحلقة الأضعف في سلسلة الترتيبات الاستراتيجية الإقليمية مع الناتو. ويعود ذلك إلى عدة أسباب منها عدم الثقة بالمنظمة وتفضيل دول الخليج التعاون مباشرة مع القوى الغربية الرئيسية في مجالات الأمن والدفاع لسهولة التعامل وسرعة الإنجاز في ظل التعاون الثنائي ولاسيما بالنظر إلى ضخامة المنظمة من واقع بيروقراطي التوتر السياسي بين دول الخليج وإيران.
وأضاف أن تلك الأسباب تدفع إلى ضرورة تفعيل العلاقات بين «الناتو» ودول الخليج. فالمنظمة تسعى فعلاً إلى منع النزاع وإلى تفعيل الإدارة الناجحة للازمات من خلال منع وقوعها أو تحد من استفحالها. وبالتالي فـ «الناتو» لا يسعى من خلال هذه المبادرة إلى الطريقة التقليدية في الدفاع والحماية بل يركز على التدريب والتعليم العسكري والتأهيل ونأمل في إمكان فتح مراكز للتدريب في المنطقة. فالمنظمة لا تسعى فقط إلى تفعيل العلاقات مع دول الخليج بل إلى تدعيم العلاقات الثنائية بين دول الخليج بعضها بعضاً.
عدم استقرار
وفي جلسة «الإنجازات ومستقبل التحديات لمبادرة اسطنبول» أكد نائب رئيس جهاز الأمن الوطني في الكويت الشيخ ثامر علي الصباح أن «منطقة الخليج محاطة بعدد من التهديدات الأمنية والتي تمثلت في الموجات الإرهابية وعدم استقرار المشهد العراقي وخطورة التهديدات النووية الإيرانية، فالإرهاب العالمي أصبح متجذراً وأكثر تنظيماً بحيث إنه قادر على إحداث أكبر ضرر في الخسائر البشرية والمادية، بل إنه استطاع أن يكيّف نفسه مع ظواهر مدمرة أخرى كغسل الأموال وتهريب الأسلحة والمخدرات». وأضاف «كما تمكن الإرهاب من الحصول على منبر دولي من خلال تخطيه للحواجز والحدود بحيث لم يعد هناك أحد بمنأى عن تلك الموجات الإرهابية، مؤكدا أن غرض هؤلاء الإرهابيين هو خلق تصادم بين الديانات والحضارات وأن مهمة المجتمع الدولي هو ألا يسمح بحدوث ذلك».
وبشأن تأثير المشهد العراقي على الأمن الكويتي، أكد الشيخ ثامر الصباح قلق الكويت من استمرار حال عدم الاستقرار العراقي ولاسيما أن الكويت تعد دولة مجاورة للعراق. وأشار إلى أن دول الخليج تخشى من أن تلك الحال قد تدفع بالمنطقة إلى المزيد من التوتر وعدم الاستقرار. أما بخصوص برنامج إيران النووي، فقد عبّر عن قلق الكويت من ذلك البرنامج ولاسيما في ظل تقارير وكالة الطاقة الذرية التي تؤكد عدم شفافية النظام الإيراني بخصوص تلك البرامج. وأوضح أنه حتى في ظل الاستخدامات السلمية تظل الكويت قلقة من تعرض المنطقة لكارثة نووية مشابهة لحادثة «تشيرنوبل»، آخذين في الاعتبار أن 99 في المئة من المياه الكويتية تستمد من الخليج. كما أن مفاعل بوشهر يبعد عن مدينة الكويت مسافة لا تقل عن 130 ميلاً، وبالتالي فإن الكويت تناشد المجتمع الدولي استمرار التفاوض بشأن ذلك البرنامج وأن تعمل إيران ضمن إطار الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وأضاف الشيخ ثامر أن إطلاق مبادرة اسطنبول تعد خطوة مهمة في طريق تعزيز أمن الكويت والخليج. فقد وفرت تلك المبادرة للكويت الإطار من أجل التنسيق الاستراتيجي في التعاطي مع تلك التحديات الأمنية، وقد كانت الكويت أولى الدول المنضمة لتلك المبادرة. وقد تم حصر مجالات التعاون الأمني الكويتي في كل من: أمن الحدود، إدارة الأزمات، مكافحة الإرهاب، التدريب والتأهيل العسكري. وقد تم تبادل الكثير من الوفود الرسمية ما بين المنظمة ودولة الكويت، كما ستستضيف الكويت المؤتمر السنوي لمنظمة الناتو والذي سيعقد في نهاية هذا العام تحت عنوان «منظمة الناتو ودول الخليج: مجابهة التحديات المشتركة من خلال مبادرة اسطنبول».
وفي جلسة «القيمة المضافة لمبادرات الناتو في المنطقة»، تحدث رئيس الحوار المتوسطي ومبادرة اسطنبول في قسم العلاقات الدبلوماسية في منظمة الناتو نيكولا ديسانتس، عن أن العام 1994 يعد نقطة تحول لدى المنظمة من خلال إطلاق مبادرات الشراكة للسلام، وأن أهمية تلك المبادرات تكمن في أنها تتيح للدول المنضمة فرصة الاستفادة من مزايا التعاون الأمني والعسكري مع المنظمة. فبعد عشرة أعوام من إطلاق الحوار الأمني مع المتوسطي، تم إطلاق مبادرة اسطنبول وهي مبادرة منفصلة إلا أنها مكملة للحوار المتوسطي مع الناتو. وقد كان وراء إطلاق تلك المبادرة جهود طويلة بذلها نائب رئيس المنظمة اليخاندرو مينوتو ريزو، وبعد ذلك جاءت مهمة قسم العلاقات الدبلوماسية من أجل تصحيح صورة المنظمة التقليدية من حيث انها منظمة أنشئت لمحاربة اتفاق وارسو، بل للتأكيد على أنها منظمة تعيش تحولات هيكلية تؤكد أهمية الشراكة الاستراتيجية في العالم، وبالتالي نحن نسعى إلى إيجاد فهم مشترك لمبادرة اسطنبول من خلال عاملين اثنين، العامل الثقافي والعامل السياسي. فمنظمة الناتو تسعى إلى فهم أفضل للمنطقة، كما أنها ترغب في أن يتفهم الآخرون ظروف التحولات التي مر بها التحالف.
أخطاء السياسة الأميركية
وعلى صعيد متصل، أكد أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت عبدالله الشايجي، أهمية مبادرة اسطنبول لاستقرار وأمن الخليج، إلا انه شدد على أن أخطاء السياسة الأميركية في المنطقة تمثل العائق الأكبر الذي يعوق نجاح تلك المبادرة. وقد تجلت تلك الأخطاء في الكثير من المناطق، فالعراق الآن أضحى على شفى حرب أهلية طائفية بين الشيعة والسنة، وقد تحول كذلك إلى مستنقع للإرهاب مع العلم بأن الإرهابيين لم يظهروا في العراق إلا بعد مجيء الأميركيين إلى العراق. كذلك نرى أن إيران استفادت من تلك الأخطاء وقد أضحت قوة نووية تهدد أمن الخليج. كما أن التعاطي السيئ للإدارة الأميركية في التعامل مع الأزمة اللبنانية الأخيرة من خلال رفضها وقف إطلاق النار أدى إلى تزايد الحنق الشعبي على السياسة الأميركية في المنطقة، وبالتالي فإن قرب «الناتو» من الإدارة الأميركية يزيد من إحراج عمل المنظمة في المنطقة.
أما الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية محمد قدري سعيد، فقد أكد ضعف الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة الأميركية ودول المنطقة ولاسيما القوى الإقليمية فيها سواء كان ذلك على مستوى الحكومات أو المنظمات السياسية كجامعة الدول العربية. بينما نجد العكس صحيحاً بالنسبة إلى الجانب الأوروبي الذي يؤكد أهمية الحوار، فخافيير سولانا على تواصل دائم مع عمرو موسى في سبيل الوصول إلى تسويات سياسية للكثير من القضايا المشتركة.
ما هي مبادرة اسطنبول؟
وبشأن ماهية مبادرة اسطنبول وموقع تلك المبادرة في العلاقات الكويتية والخليجية مع الدول الغربية، ذكرت المكيمي، أن تلك المبادرة تشكل نقطة تحول لدى منظمة الناتو ودول الخليج، كما أنها تعد أحد أشكال تعزيز العلاقات الغربية - الخليجية ولاسيما في المجال الأمني والاستراتيجي. وأضافت أن المبادرة تعد أحد المظاهر البارزة في ظروف إعادة الهيكلة المؤسسية للمنظمة من حيث تحولها من منظمة تهتم بالفلسفة الدفاعية التقليدية كالاهتمام بالمعدات الثقيلة والخطط العسكرية التقليدية إلى منظمة تسعى إلى تأهيل قوات تدخل سريع وإيجاد تقنيات حرب العصابات وفرق مكافحة الإرهاب، وبالتالي فإن نجاح تلك المنظمة في ذلك التحول يضمن لها الاستمرارية والنجاح، ولاسيما أنها تعرضت للكثير من النقد من قبل بعض الدول الغربية إبان سقوط الاتحاد السوفياتي، في حين أن تلك المنظمة بصورتها التقليدية لم تعد صمام أمان للأمن الأوروبي، لذلك سعت بعض الدول كفرنسا إلى إيجاد قوات التدخل السريع الملحقة بالاتحاد الأوروبي، ما خلق الشعور لدى القائمين على المنظمة بضرورة التحول وفقاً لتلك المتغيرات، ومن هنا انطلقت فلسفة الشراكة لهذه المنظمة بما في ذلك إطلاق مبادرة اسطنبول الموجهة بشكل رئيسي لدول الخليج.
وذكرت أنها جاءت كتكملة لمبادرة الحوار المتوسطي وهي مبادرة اختيارية تحدد الدولة المنظمة مجالات التعاون مع المنظمة والتي حصرت في مجالات: مكافحة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل، ضبط الحدود، منع تهريب المخدرات والأسلحة والمتسللين، التخطيط لحالات الطوارئ المدني، التدريب والتأهيل، المشاركة في تدريبات الناتو، تطوير العمليات العسكرية المشتركة. وفي ظل التهديدات الأمنية المحيطة، تساهم تلك المبادرة في استقرار المنطقة ولاسيما أنها لا تمثل اتفاقات دفاعية بل هي إجراءات تهدف إلى تطوير القدرات الأمنية لدول المنطقة
العدد 1477 - الخميس 21 سبتمبر 2006م الموافق 27 شعبان 1427هـ