العدد 1476 - الأربعاء 20 سبتمبر 2006م الموافق 26 شعبان 1427هـ

أحذيةٌ وأبواق!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في يناير/ كانون الثاني 1986، نشرت مجلة «العربي» مقابلةً ضافيةً مع محمد حسنين هيكل، تحدّث فيها عن محاور شتى، من بينها قضية علاقة الصحافي بالسلطة، وهي علاقةٌ كما قال لابد منها، فالسلطة هي مصدر الخبر، وعمل الصحافي الرئيسي إيصال الخبر إلى الرأي العام. إلاّ أنه وضع بتعبيراته الجميلة خطاً فاصلاً مهماً بين نوعين من الخيارات: أن تقف عند رأس السلطة أو عند أقدامها. وهو الفارق بين أن تحترم نفسك وقراءك، وبين أن تقبل أن تكون ذيلاً أو بوقاً أو حتى حذاء.

في السابق، كان من السهل جداً على القارئ البحريني أن يشمّ رائحة «الفلوس التي تخرب النفوس» في مواقف بعض الكتاب والصحافيين من خلال ما يكتبون، من غزلياتٍ في قانون «أمن الدولة»، ونعيٍ دائمٍ للبلد لما وصل إليه من «حريات لا تحتمل»! والمطالبة بالحد من هذه الحرية الزائدة جداً عن الحد المعقول!

الجمهور القارئ في البحرين، بما فيه الجسم السياسي الشعبي النشط، اعتاد على بضاعة هذا الصنف من المستَكتَبين، الذين لا يُسمع لهم صوتٌ إلاّ عند تطاير شرارات الفتن، تراهم في المقدمة يحملون لواءها ويهرولون. هؤلاء الواقفون عند أقدام السلطة ينتظرون الأوامر والإرشادات، لا يجرؤ أحدهم أن يتنحنح إلاّ بإذن، ولا أن ينظّف أنفه من المخاط إلاّ بإذن، ولا أن يذهب إلى الحمام إلاّ بإذن... حوّلوا الصحافة إلى مسخرة وسلة مهملات. ومن سنّة الكون أن يجد هؤلاء أنفسهم في صدامٍ متجددٍ مع صنفٍ آخر من الصحافيين، ارتضوا أن يكونوا مع الناس الذين لا صوت لهم، حتى وإن وقفوا قريباً من رأس السلطة إلاّ أنهم يبقون أوفياء للمهنة وتقاليدها، ولصوت الضمير.

اليوم، مع هذا الكمّ الكبير المدهش مما تسرّب من معلومات ووثائق يُراد التعمية عليها، يتعرّض المجتمع الصحافي إلى هزّةٍ تضرب في صميم صدقيته وأخلاقيته ومهنيته بسبب ممارسات من يسمونهم في لبنان بالـ «القبضايات». لا يعني ذلك أن ما نُشر كشف شيئاً يجهله البحرينيون، فنحن بلدٌ صغيرٌ لا تبعد منطقة فيه عن أخرى بأكثر من خمس دقائق، ليس فيه أسرارٌ تخفى على أحد، والناس تعرف من يقبضون ومن يتعففون، كل ما هنالك أن الأوراق الممهورة بالتواقيع أصبحت مكشوفة للجميع!

أحدهم يدافع عن جرمه بأنه يريد أن يواصل دراسته في الخارج، ولابد أن يوفّر «فلوساً» من خلال كتابة مقالاتٍ موجهةٍ ضد جهاتٍ أو جمعياتٍ أو شخصياتٍ وطنيةٍ معروفة.

آخر يتستر تحت اسم «المحرر السياسي»، يتحف القراء بتقارير و«تحليلات» تنشر في بعض الصحف تفوح منها روائح «الأجهزة». وثالث يُكلّف باختراق بعض المنتديات الشعبية بأسماء مفروزة طائفياً، ليؤجّج الوضع أو ينشر اللعنات والفتن.

إذا بحثت عن المقابل المادي لهذه الخدمات، هناك مقالات بـ 500 دينار، و200 دينار، و100 دينار، كلٌ حسب شطارته! بل هناك خدمةٌ صحافيةٌ قيمتها 30 ديناراً فقط (لا ندري ماذا كتب أو شتم مَنْ)! أقلامٌ رخيصة، وبضائعُ تافهةُ (خرداوات)، ومع ذلك هناك من يشتريها!

تسأل أحدَهم مستهجِناً لائماً غاضباً على ما مرّغوا به وجه الصحافة في البحرين: لماذا هذه المسخرة؟ فيجيب من دون خجلٍ أو تردّد: «عندنا أولاد، نريد أن نؤمِّن مستقبلهم ونبني لهم بيتاً»، كأن غيره ليس لديه أطفالٌ يخاف عليهم ويريد أن يؤمِّن مستقبلهم، أو يطمح إلى بيت يضم أسرته.

الصحافي وما اختار... أن يقف عند رأس السلطة محترِماً نفسه وشعبه ومهنته، أو ينبطح تحت أقدامها... مثل القطّ أو الحذاء

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1476 - الأربعاء 20 سبتمبر 2006م الموافق 26 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً