المشهد الانتخابي في اليمن الذي أسدل الستار على فصله الأخير أمس ليس جديداً على المنطقة العربية والكثير من دول العالم الثالث. فهذا المشهد أخذ يتكرر في أكثر من مكان بعد أن وصلت حال صدقية الأنظمة إلى أسفل الدرجات. وبسبب انعدام الثقة لجأت السلطة إلى نوع جديد من «الديمقراطية» تعطي للمعارضات حق التنافس المشروط والمحكوم بسقف من الحراك السياسي.
قبل ذلك كان «الرئيس» يجدد لنفسه من خلال الاستفتاء الشعبي على رئاسته ودائماً كانت النتائج متشابهة تصل نسبتها العامة إلى معدل وسط يفوق 80 في المئة وأحياناً 90 في المئة. مرة واحدة شذت النسبة عن قاعدتها وهي تلك التي جرت في العراق وقبل شهور من سقوط بغداد إذ أعطى الاستفتاء الشعبي على تجديد رئاسة صدام حسين نتيجة غير مسبوقة في تاريخ المنطقة وصلت إلى 100 في المئة.
بعد سقوط نظام صدام التكريتي في العام 2003 انتبه الرؤساء إلى خطورة النسبة المطلقة وأخذوا يشتغلون على منهجية مختلفة تعطي بعض الصدقية لعملية الاقتراع بناء على اعتماد فكرة «التنافسية» التي تقوم على نوع من «التعددية» في الاختيار.
هذه النقلة السياسية تعتبر في منطقة متخلفة خطوة تطورية لأنها تفسح المجال أمام القوى المعارضة أو الموالية أو الطامحة في التحرك والبوح جزئياً بما تؤمن به أو تريده.
وما حصل في اليمن من تنافس بين مترشحين على مقعد الرئاسة يعتبر في المقاييس النسبية خطوة تقدمية في سياق تقهقر معظم المنطقة على مختلف المستويات. فأبناء اليمن قيض لهم بعد غياب طويل على التجمع لمناصرة هذا المترشح أو ذاك. وشهدت الكثير من المدن والمناطق والجهات اليمنية تلك الحشود الضخمة التي تهتف «مع» أو «ضد» السلطة. وهذا بحد ذاته يعتبر من الحقوق المكتسبة وكان سابقاً من الممنوعات والمحرمات.
إذاً أقفل أمس الفصل الأخير من المشهد الانتخابي في اليمن وكل الاستطلاعات تشير إلى تقدم الرئيس اليمني على المتنافسين الآخرين بنسبة معقولة تضمن للسلطة تجديد ثقتها بنفسها بعد عثرات تعرضت لها على مستويات التنمية ومحاربة الفساد وغيرها من أمور تتصل بالحقوق الطبيعية لإنسان يعيش في مطلع القرن الواحد والعشرين.
النتيجة معروفة سلفاً وهي التجديد للاستمرارية وليس للتغيير وهذا يعني أن اليمن سيكون تحت سقف سلطة تشكلت في سياقات انقلابية امتدت منذ نحو 45 عاماً ورسخت شكلاً بدائياً من أشكال النمو «الجمهوري» الذي لا يختلف كثيراً عن أنماط سياسية بدائية موجودة في جهات مختلفة من المنطقة العربية.
النظام «الجمهوري» في اليمن قام في العام 1962 على إثر انقلاب عسكري أطاح بنظام الامامة. آنذاك كانت المنطقة تعيش حال غليان ثوري من الجزائر في منطقة المغرب إلى مصر الناصرية وصولاً إلى بلاد الشام وأقاصي الخليج. وكانت المنطقة آنذاك تمر أيضاً في حال انتقال من الاستعمار إلى الاستقلال. فالدول الخليجية لم تكن كلها خارج المظلة الاستعمارية واليمن الجنوبي (عدن) أيضاً.
وبسبب هذا الوضع المتداخل بين مرحلتين تشكلت انقسامات كبيرة في المنطقة على إثر الانقلاب الجمهوري في اليمن (الشمالي آنذاك) وتحول الأمر إلى حرب أهلية أسهمت في تشغيلها تدخلات إقليمية وأجنبية. وانتهت تلك الحرب إلى ترسيخ النظام الجمهوري واضطرار جمال عبدالناصر إلى سحب جيشه بتفاهمات إقليمية على اعتاب وبعد هزيمة 5 يونيو/ حزيران 1976.
إلا أن التفاهمات لم تكن نهائية بسبب وجود الاستعمار البريطاني في عدن ونجاح الأخير في احباط الوجود العسكري المصري على مقربة منه. وبعد الهزيمة لجأت بريطانيا إلى سياسة خبيثة تقوم على مبدأ «فرق تسد». فهي أعلنت عزمها مغادرة عدن (باب المندب) وتسليم السلطة للتحالف اليساري - الماركسي ومنعت التيار القومي - الناصري من الانتصار حتى لا تعطي مصر أفضلية في إطار طموحها القاضي بضرورة ربط الأمن الاستراتيجي بين البحرين الأبيض والأحمر.
لجأت بريطانيا إلى هذا الخيار الايديولوجي لأنها كانت تدرك أن «النظام الماركسي» يقوم على فراغ اجتماعي وسيجلب إلى المحيط الإقليمي المخاوف وسيؤدي إلى تأسيس قاعدة سوفياتية تمنع التيار العربي/ الإسلامي من التقدم لإعادة التوازن الاستراتيجي المطلوب أميناً لحماية الاختراقات الأجنبية. وأدى «الخيار الايديولوجي» البريطاني إلى توتير أمن المنطقة وزعزعة استقرار اليمن فدخل في مشاحنات واضطرابات وانقلابات انتهت في العام 1978 بوصول الرئيس علي عبدالله صالح إلى سدة الرئاسة.
فترة هدوء
نجح صالح في القبض على السلطة بقوة مستفيداً من خبرته العسكرية الطويلة وخدمته الدائمة في المؤسسة. فهو يعتبر من الضباط الذين ساهموا في الانقلاب الجمهوري واكتسب تجربة قتالية أعطته ميزة في إدارة المناورات السياسية نتيجة احتكاكه بالمناطق واطلاعه على تركيبة البلاد الجهوية والمذهبية والقبلية. واعتماداً على هذه التجربة الميدانية تشكلت عند الرئيس صالح منهجية توفيقية جمعت بين المحافظة على النظام الجمهوري من خلال مؤسسة الجيش والتوازن الأهلي الذي عكس بحدود نسبية طبيعة المجتمع ومراكز قواه.
الجمع بين «الدولة» والقبيلة أعطى فرصة للرئيس صالح في تدعيم النظام الجمهوري على قواعد سياسية خلطت بين «الجديد» والقديم وسهلت أمامه عملية ترسيخ السلطة بسبب انتفاء عناصر المعارضة والممانعة إلا في حدود نسبية تسمح للرئاسة بالسيطرة عليها واستيعابها.
إلى ذلك دخلت المنطقة كلها تقريباً في حال من الهدوء العام. ولم تعد مشاهد الانقلابات والبلاغات العسكرية تتكرر كما كان أمرها في الخمسينات والستينات والسبعينات. فالعالم العربي دخل في فترة إرهاق من السياسيات الانقلابية وخصوصاً حين اكتشفت الجماهير أن الأنظمة الجمهورية ليست مختلفة في تركيبتها السلطوية عن الأنظمة غير الجمهورية. هذا التشابه في المضمون الاجتماعي للسلطة السياسية وجه رسالة للشارع العربي بالسكوت والقبول بالأمر الواقع وعدم الطموح للتغيير... لأن الجديد ليس بالضرورة أفضل من القديم.
كل هذه التحولات لعبت لمصلحة الرئيس صالح الذي اكتشف سر اللعبة وقام بربط شبكة علاقات دولية وإقليمية وعربية ودخل في محاور مؤقتة لمصلحة استقرار اليمن ومن أجل ترسيخ السلطة وتثبيتها على حالها وهذا ما توافر له خلال تلك الفترة التي امتدت من العام 1978 إلى 1990. وبسبب نجاحه في وعي الواقع اليمني أخذ صالح يبتعد عن «الايديولوجيا» ويقترب من السياسة بصفتها شكلاً من أشكال التوازن الداخلي الذي يقوم على قراءة صحيحة لمراكز القوى ودور القبيلة وزعماء المناطق والعشائر في تأمين الاستقرار للسلطة والقوة للدولة. وعلى هذا يمكن فهم نجاح اليمن في توحيد شطريه الشمالي والجنوبي في العام 1990 وصمود الوحدة على رغم المتغيرات التي عصفت بالمنطقة بعد العام 1991 ومحاولات القوى «اليسارية» المتضررة فرض الانفصال بالقوة مستفيدة من فضاءات حرب الخليج الثانية.
نجاح الرئيس صالح في ضرب محاولة الانفصال بالقوة العسكرية رسخ السلطة الأمنية وجعلها في حال من الاستنفار إلى أن حققت مجدداً توازنها السياسي من خلال تحالفات قبلية وجهوية ومناطقية ومواقع قوى دينية. ومنذ حرب التوحيد وهزيمة «الايديولوجيا اليسارية» تشكلت هيئة «الدولة» وفق ما تمليه صورة الواقع. والواقع اليمني المتخلف في تكويناته وعلاقاته لا ينقسم إلى طبقات اجتماعية كما كانت ترى «القبائل الماركسية» في برامجها الايديولوجية. فالواقع اليمني يشبه كثيراً عشرات الدول العربية والإسلامية والآسيوية والإفريقية وهو لا يخرج عن إطاره القديم في تشكيل قناعاته السياسية التي تنهض على آليات موروثة تقوم على تنظيمات تقليدية يحركها شيخ القبيلة أو شيخ الطائفة أو شيخ الدين أو زعيم المنطقة أو الجهة.
السلطة في اليمن ليست حديثة وانما هي نتاج تركيب يمزج الجديد بالقديم. والجديد السياسي (احزاب اليمن المتنافسة) في جوهره يعتمد على موروثات قديمة تستند إلى القديم لتحصين نفسها أو تجديد مواقعها بعناصر القوة المتأتيه من روافد القبيلة وما يتفرع عنها من زعامات سياسية ودينية.
المشهد الانتخابي في اليمن الذي أسدل الستار على فصله الأخير أمس يشبه كثيراً تلك المظاهر «الديمقراطية» في المنطقة العربية ولا يختلف عنها في جوهره التراتبي والبنى الاجتماعية عن تلك الأنظمة العسكرية التي تتشكل منها «الجمهوريات» العربية الأخرى.
الفارق هو نسبي في معدلات النمو والتطور أما القانون فهو متشابه في تكوينه القبلي (الأسري) والمناطقي والطوائفي. ومن الآن وحتى يتغير المشهد لابد من الاعتراف أن المرحلة الانتقالية طال أمدها الزمني ويرجح أن يطول إلى فترة أبعد نظراً لكون السياسة في المنطقة العربية مرتبطة بتخلف مفهوم السلطة وعدم نجاح «الدولة» في نقل علاقات الاجتماع البشري من طور القبيلة والطائفة والمذهب والمنطقة والجهة إلى طور «المجتمع» وما يتطلبه من شروط ستبقى للهوية الجامعة. وبما أن الجماعة لم تتقدم إلى طور المواطن فستبقى الموروثات تقرر مصير «الجمهوريات» والرؤساء
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1476 - الأربعاء 20 سبتمبر 2006م الموافق 26 شعبان 1427هـ