العدد 1475 - الثلثاء 19 سبتمبر 2006م الموافق 25 شعبان 1427هـ

بين البابا أربان والبابا بنديكت!

محمد علي الهرفي comments [at] alwasatnews.com

كاتب سعودي

بين البابا أربان الثاني والبابا بنديكت السادس عشر نحو ألف عام، ولكن حديثهما عن الإسلام لم يختلف كثيراً على رغم تلك السنوات الطويلة، والواضح أن الحقد على الإسلام هو الذي يجمع بينهما.

البابا بنديكت في محاضرته التي ألقاها في جامعة «ريجبسبورغ» الألمانية انتقد رسولنا الكريم، وقال إنه «لم يأتِ إلا بما هو شرير وإنه نشر دينه بالسيف»... ويضيف البابا قائلاً: «إن الإسلام لا يجمع بين العقل والإيمان»، البابا أكد أن تلك الأقوال ليست له وإنما نقلها عن الامبراطور البيزنطي مانويل الثاني الذي عاش في القرن الرابع عشر، وكأنه أراد القول إنه ليس بالضرورة أنه يؤمن بتلك الأقوال.

لست أدري؛ هل كان يعتقد أن المسلمين ساذجون كي يصدقوا ذلك التبرير المتهافت؟ وهل كان ناسياً أن تاريخه السابق يتماشى مع أقواله تلك؟

كان بودي أن يعيد البابا قراءة التاريخ جيداً - إذا كان لم يقرأه قبل ذلك - ليعرف أين تقع أقواله من ذلك التاريخ، وليعرف أيضاً من هم الأشرار ومن هم الذين يستخدمون الدين لنشر آرائهم ومعتقداتهم بالعنف.

التاريخ الوحشي للنصارى في تعاملهم مع الآخرين ومع أنفسهم تاريخ حافل، وأجزم أن البابا يعرف هذا التاريخ السيئ ولكنه - لسوء ما يحمله للإسلام - تجاهل هذا كله واكتفى بترديد أقوال كاذبة لا تمت إلى الواقع بصلة.

لعلي أذكره بما قاله سلفه البابا أربان الثاني وقد اغتنم فرصة اجتماع المجمع الديني العظيم في مدينة «مكيرومون» الفرنسية فخاطب آلاف المجتمعين، قائلاً لهم: «تقدموا إلى البيت المقدس. انتزعوا تلك الأرض الطاهرة واحفظوها لأنفسكم فهي تدرّ سمناً وعسلاً. إنكم إذا انتصرتم على عدوكم ورثتم ممالك الشرق وإن خذلتم فستقفون حيث مات يسوع فتخلدون في النعيم المقيم». هذا جزء من تلك الكلمة التي استخدم فيها البابا كل المحرضات الدينية ليجعل أتباعه يندفعون إلى قتال غيرهم وأخذ بلادهم... هل كان البابا يجهل هذا التاريخ الأسود لسلفه؟

الصليبيون القدامى دخلوا بيت المقدس (سنة 492هـ) واقتحموا المسجد الأقصى وقتلوا فيه سبعين ألفاً اعتقاداً منهم أنهم ينفذون تعاليم المسيح كما قال لهم زعيمهم البابا أربان الثاني... هذه المجزرة تحدث عنها المؤرخ المسيحي ول ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»، فقال نقلاً عن القس ريموند الذي حضر هذه المذبحة: «وشاهدنا أشياء عجيبة إذ قطعت رؤوس عدد كبير من المسلمين وقتل غيرهم رمياً بالسهام أو أرغموا على إلقاء أنفسهم من فوق الأبراج وظل بعضهم يعذبون عدة أيام ثم أحرقوا بالنار». وهذا الذي ذكره ديورانت غيض من فيض، وأعجب مرة أخرى كيف يجرؤ البابا على اتهام المسلمين بالعنف وهو يفترض فيه معرفة تاريخ أسلافه وتاريخ حضارته، هذا إن كانت لهم حضارة!

هل أتحدث عن محاكم التفتيش وكيف كان المسيحيون آنذاك يقتلون المسلمين من دون شفقة أو رحمة؟ هل كان البابا يجهل هذا التاريخ الأسود لأسلافه؟ المسلمون دخلوا الأندلس ونشروا فيها الحضارة التي يشهد لها التاريخ بما فيه تاريخ النصارى، المسلمون لم يقتلوا النصارى اعتباطاً ولم يطلبوا منهم مغادرة بلادهم أو الإسلام على رغم أنوفهم، لكن المسيحيين فعلوا ذلك كله، فلم يسمحوا لأي مسلم بالبقاء في إسبانيا إلا إذا ترك دينه وتنصر وما عدا ذلك فليس للمسلمين إلا القتل أو المغادرة... هل هذا هو التاريخ الذي يفخر به البابا بنديكت السادس عشر؟ وهل المسلمون هم الذين ينشرون دينهم بالعنف أو المسيحيون؟

مشكلة الكاثوليك أتباع البابا أنهم يحقدون على كل من يخالف مذهبهم - ولا أقول دينهم - ولعل البابا يعرف أن نحو عشرة ملايين قتلوا في الحروب الطاحنة التي حدثت بين الكاثوليك والبروتستانت... مرة أخرى، هل هؤلاء الملايين العشرة قتلهم العنف الإسلامي أم العنف المسيحي؟ ألم يستخدم المسيحيون الدين لتبرير كل تلك الجرائم التي طالتهم كما طالت سواهم؟ أين البابا من هذا كله؟ لماذا يتجاهل تاريخهم الدموي ليتهم الإسلام ونبيهم بما ليس فيهم؟

والأعجب من ذلك كله، اتهام الإسلام بأنه يتعارض مع العقل، وإذا كنت سأفترض حسن النية لأقول إن البابا يجهل الإسلام وإنه لم يطلع على القرآن ليعرف مكانة العقل فيه، فهل يجهل البابا حجم الحضارة التي صنعها المسلمون في أوروبا وفي الشرق؟ وهل يجهل البابا فضل المسلمين على بلاده من الناحية العلمية؟ وإذا كان يجهل هذا كله، فهل يجهل البابا حجم الجهل الهائل عند أسلافه وكيف أنهم حاربوا العلماء وقتلوهم وأحرقوهم واتهموهم بالزندقة والهرطقة؟ هل فعل المسلمون في تاريخهم كما فعل النصارى مع علمائهم؟ المؤكد أن البابا لا يجهل هذا التاريخ الأسود لكنه الحقد على الإسلام ولا شيء غير ذلك؟

وإذا كان البابا يجهل التاريخ القديم، أفلا ينظر إلى ما يحدث اليوم وأمام عينيه؟ ألم يشاهد قتل عشرات الآلاف من المسلمين في العراق وأفغانستان؟ ألا يرى المجازر اليومية التي يقوم بها أتباع ديانته على أرض المسلمين؟ ألم يسمع عن الانتهاكات المفزعة التي يمارسها أتباع ديانته؟ ألم يقل الرئيس بوش إن ما يفعله حرب دينية صليبية؟ قال إن مقولته زلة لسان أخطأ المسلمون في فهمها، تماماً كما قلت أنت... أليس من العجيب - يا سيادة البابا - أن زلات لسانكم لا تنال إلا إسلامنا؟ لماذا لم تزل تلك الألسنة فتتحدث عن اليهودية مثلاً؟ أعتقد أنه الخوف الذي يمنعها من مثل تلك الزلات.

البابا اعتذر ولكن بصورة ملتوية، وحسنٌ أنه فعل ذلك وإن كان هذا الاعتذار لا يشكل الحد الأدنى مما كان يجب أن يفعله.

المسلمون نددوا بتلك الأقوال السيئة، ومعظم حكوماتهم تحركت بصورة أو بأخرى للتعبير عن غضبها من الإساءة لدينها... وحسنٌ أيضاً ما جرى وإن كان لا يمثل الحد المطلوب الذي يجب أن يقوم به الناس وحكوماتهم.

بالأمس كانت الرسوم المسيئة إلى الرسول واليوم تأتي الإساءة من قمة الهرم المسيحي وكل ذلك دليل على الاستخفاف بالمسلمين؟ الرئيس الأميركي أرادها حرباً صليبية والبابا أراد إضفاء صفة القداسة على هذه الحرب التي مازالت قائمة وكأن التاريخ يعيد نفسه، وكأن المتحدث هو البابا أربان الثاني قبل نحو ألف عام!

البابا - للأسف الشديد - أراد أن يذكي روح العداوة بين المسلمين والمسيحيين وكأنه يجهل أن هناك مسيحيين يعيشون في بلاد مسلمة، وأن هناك مسلمين يعيشون في بلاد مسيحية، وأن كلامه يدفعهم إلى العنف تجاه بعضهم بعضاً وشرارة هذا العنف اتضحت مباشرة.

على المسلمين - شعوباً وحكاماً - أن يدركوا أن مثل هذه الأقوال قد تكون بداية لأفعال مؤسفة تحاك ضدهم، وأن عليهم أن يتلمسوا مواطن القوة كلها للدفاع عن بلادهم ومعتقداتهم.

وكما أن بعض غلاة النصارى فرحوا لكلام البابا لأنه يعبّر عن أحقادهم، فعلى المسلمين أن يعملوا على بث الوعي بين مواطنيهم ليعرفوا كيف يتعاملون مع مثل هذه الحوادث التي لن تكون الأخيرة مادام الضعف الإسلامي والتفرق هو الذي يطغى على واقع المسلمين في كل بلادهم

إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"

العدد 1475 - الثلثاء 19 سبتمبر 2006م الموافق 25 شعبان 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً