اختار الشاعر العراقي المشهور بدر شاكر السياب لابنه الوحيد اسم «غيلان»، وهو اسم ليس له وقع موسيقي أو معنى جميل، وإنما كان له رنين خاص كما يبدو في نفس السياب المعذب المنفي المطارد العليل.
غيلان الدمشقي في التاريخ كان من الشخصيات البارزة أيام الخليفة الأموي الطيب عمر بن عبدالعزيز، الذي عيّنه على الخزائن التي وجدها في قصر الخضراء، فكان يجمع الأمتعة والنفائس ومنتجات الحرير المترفة ويحرج عليها في السوق... في زمن كان الناس يموتون من الجوع.
الاختيار لم يكن عفوياً بطبيعة الحال، وإنما كان لوجود نوع من التناغم والانسجام في النزعة الفكرية، فعمر الذي أحدث ثورة في السياسة تجاه المعارضين، وتحول من أمير مدلل إلى خليفة زاهد متنسك، استهواه ما يطرحه المتكلم غيلان من أفكار، فهو الذي كان يصرح بأن إمامة المسلمين يمكن أن يليها من كان كفؤاً لها، وليس من الضروري أن يكون من البيت الهاشمي أو من القرشيين، والمهم أن يكون ملتزماً بالكتاب والسنة، ولا تثبت إلا بإجماع الأمة واختيارها.
مثل هذا الطرح من الواضح أنه يضرب في صميم تصور الأمويين عن أنفسهم بأنهم في منزلة فوق البشر، خُلقوا من طينة أخرى، لا يسألون عما يفعلون، فالدنيا كلها بستان خصَّهم اللّهُ به من بين العالمين.
هذا الثنائي تحالفت عدة قوى على إجهاض حركته وهي في بداياتها. غيلان اجتنبه عدد من علماء عصره، ومنعوه من مجالسهم، ودعا بعضُهُم الناسَ إلى عدم إجابته إذا دعاهم، وعدم عيادته إذا مرض، فالمقاطعة خير علاج للمتمردين! أما الخليفة فاجتمعت عليه القوى المتنفذة التي هدد مصالحها وامتيازاتها وباع أمتعتها، وقدمت إليه السم في طعامه حتى مضى إلى سبيل ربه.
أما غيلان، فقد أفتى الإمام الأوزاعي بقتله، وكتب عالم الدين رجاء بن حياة إلى الخليفة هشام بن عبدالملك: «إن قتله أفضل من قتل ألفين من الروم»! وهكذا اقتادوه إلى التنفيذ، فقطعت أطرافه، وفيما كان الدم يسيل منه أخذ يصيح: «قاتلهم الله، كم من حق أماتوه، وكم من باطل أحيوه...»، فبلغ هشامَ ما يقول فأمر به فأجهزوا عليه.
هذه قصة غيلان التي أعجبت الشاعر العراقي الرقيق، صاحب «أنشودة المطر»، التي يتحدث فيها عن الجياع في أرض الرافدين:
مطر... مطر... مطر...
ما مرّ يومٌ في العراق ليس فيه جوع.
حتى ينتهي إلى القول:
سيعشب العراق بالمطر.
هذا هو غيلان القديم، إذ تروى قصته فيما تروى من حكايات القرن الهجري الأول، أما غيلان القرن الأخير، غيلان الصحارى والفتن، فهم كالجراد المنتشر، ما يأتي على شيء إلا جعلته كالرميم. فهي غيلان لا تشبع، مستعدة لتقديم كل شيء في سبيل خمسين ديناراً، مستعدة لشتم الناصحين وإسقاط الشخصيات الوطنية النظيفة، وإشاعة الفتن وبث البغضاء بين أفراد المجتمع الإسلامي الواحد، وإثارة الكراهية والتشاحن بين أبناء الوطن الواحد.
من الآن... على الجميع أن ينشّط ذاكرته المثقلة بأشباح الغيلان الجدد، دعاة إعمار السجون والمتغزلون الدائمون بقانون «أمن الدولة»، والمتلذذون بالتنكيل بالشعوب... هل تذكرون؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1475 - الثلثاء 19 سبتمبر 2006م الموافق 25 شعبان 1427هـ